الاستبداد الناعم

الثقافة التربوية والتربية النفسية

تُعرف تربية الشبع على أنها تربية الإنسان وتعويده على توفير كافة متطلباته وليس احتياجاته

رحمة مصطفى (القاهرة)

حين نذكر مفهوم التربية، فهنا يخطر ببالنا كثيرًا من المعاني؛ فمهومها يختلف باختلاف ماهية الواقع عليه عملية التربية، فمثال ذلك: تربية الدواجن، أو الحيوانات، أو أي كائن حي غير الإنسان، فإن المقصود هنا الرعاية وتلبية الحاجات البيولوجية.

ولكن حين يتعلق الأمر بالإنسان فلابد وأن يتخذ المعنى مسارًا آخر يختلف تمامًا عن هذا؛ فعملية التربية هنا بدورها تعني البناء، البناء لكيان يترتب عليه مستقبلًا كونه صالحًا قويًا أو فاسدًا ضعيفًا معرضًا للهدوم والتقويض.

عن تربية الشبع

تُعرف تربية الشبع في مجتمعاتنا على أنها تربية الإنسان وتعويده على توفير كافة متطلباته وليس احتياجاته، وخاصة المادية منها، وتيسيرها وتوفيرها دون أي منع، وبشكل مفرط جدًا، معتقدين أن ذلك هو ما يحقق الرضا الداخلى للأبناء، فلا يشعرون بنقص أو دونية، أو كون أحد آخر أفضل منهم، بل هذا هو عين تميزهم بين الناس! أو أن هذا عين عزتهم وعفتهم عن التطلع لما فى يد الغير!

ولكن فى حقيقة الأمر أن هذه الثقافة لا تخلق إلا إنسانًا أنانيًا، لا يشبع أبدًا ولا يقنع أبدًا، دائم السخط على كل من يراه، لديه شيء ليس عنده، مسيطر عليه الشعور الدائم بالنقص والشعور بالدونية؛ لأنه قد تعود على أن سعادته تكمن في امتلاك كل شيء، لا يؤمن بعدل الله في توزيع أقداره، يبحث عن المساواة في كل شيء، يصبح أسيرًا لغريزة الامتلاك للأشياء، لديه بعض الشيء أو كله من الحقد والحسد تجاه الآخرين ممن يراهم متفوقين عليه في أشياء.

وللأسف لا يقف الضرر عند هذا الحد فقط، ولكن، هذه الثقافة أيضًا هي ضمن المسببات الرئيسة التي أنتجت لنا مجتمعات استهلاكية من الدرجة الأولى، يجرى لاهثًا وراء السلعة والماركة.

إذا كنا نبحث عن الشبع الحقيقي، فهو لابد وأن يكون في تربية الأجيال على حب المعانى والبحث عن سمو الروح، لا أسيرًا للمادة، حتى يتحقق لديه شعور السلام الداخلي.

وعلينا أن نعلم جيدًا الفارق بين مفهوم الحاجة والطلب وأن ليس كل متطلباتك هي ما تحتاجه، وإذا عاش الإنسان حياته يحقق طلباته لن يدرك ما يحتاجه، وهذا بدوره هو ما يتسبب فى كون الإنسان تعيسًا مهمًا توفر لديه كل ما يطلبه.

تربية العسف والقهر

يقول ابن خلدون : من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس فى انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما فى ضميره خوفـًا من انبساط الأيدى بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقـًا، وفسدت معانى الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهى الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره فى ذلك، بل كسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد فى أسفل السافلين.

يذكر لنا دكتور عبدالكريم بكار في كتابه مشكلات الأطفال:

إلى أنه بناءً على معظم الدراسات المتعلقة بسلوك الطفل أشارت إلى أنه كلما ازدادت قسوة الآباء والأمهات ولجأوا إلى الضرب والعقاب؛ لحمل الطفل على قول الصدق والإقرار ببعض الأخطاء، لجأ الأطفال إلى الكذب، ومن ثم الصيرورة إلى إدمانه، وهذا يعود إلى عامل الخوف، لكنه يحمل الآباء القساة مسؤولية انحراف أبنائهم، فالرفق كما علمنا نبينا ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ ماكان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه.

من منا لا يرى الشخص الذي يخاف العصا؟َ ويصبح كل تصرفاته وأفعاله وخطواته لا تراقب إلا العصا، والعصا هنا ليست بمعناها الحرفي، ولكن هي كل شيء يكون وسيلة للاستبداد والتسلط والقهر، فكم نرى مرؤوسين وموظفين في مؤسسات يخافون عصا رئيس عملهم، والزوجة التي تخاف عصا زوجها، وأي شخص لا يخشى إلا صاحب السلطة الأعلى منه.

في ظل بيئة الاستبداد لن ترى من الفضيلة، إلا التي تصدر مخافة هؤلاء أو لنيل رضاهم والحفاظ عليه، يترتب على هذا أيضًا، كون الذين يقع عليهم أي مظهر من مظاهر الاستبداد، مستبدين أيضًا، يمارسون الاستبداد، ولكن في مواطن أخرى، وعلى من هم أضعف بالطبع، ومن هؤلاء سنجد الأب المستبد، والأم المستبدة.

الاسبتداد في التربية له صور شتى، أبرزها: الضرب والصراخ الإهانة والتوبيخ، إن هذا النهج الذى تربينا عليه وعلمنا أنه وسيلة ناجحة من وسائل التأديب والعقاب، نظرًا لأنها تُعوِد الأبناء على الطاعة وحسن السلوك، ولكن في حقيقة الأمر تربى إنسانًا جبانًا مقهورًا، سيكبر ولن يكن في استطاعته قول كلمة لا، يخشى الاعتراض عمومًا على ظلمه، يخشى حتى الدفاع عن حقوقه والوقوف أمام معتد على حقه، وفى أحيان كثيرة يكون مسلوب الإرادة، وإن لم تفسد إنسانيته سينالها حتمًا بعض الشيء من التشوه.

الاستبداد الناعم

ثمة نوع آخر من الاستبداد التربوي، وهو الاستبداد الناعم، وهو محاولة المربيين لقولبة عقول أبنائهم وسلكوهم وطبائعهم وتوجيهها وفقًا لما يريدون، ضاربين بتميز أبنائهم ـ وسنة الله في كون كل إنسان ميسر لما خُلق له ـ عرض الحائط، فارضين عليهم أحلامهم الشخصية، فهذا يريد من ابنه أن يصبح طبيبًا والآخر يريده مهندسا…إلخ.

والأولى من ذلك كله هو احترام عقلية الطفل وتميزه وكيانه، وإذا وجد من الأبناء ما يدفعنا للاعتراض والرفض، علينا قبل الرفض والاعتراض الإقناع، وهذا هو ما يخرج لنا المفكر الذى يعش حياته يبحث في أصول الأشياء، والمستقل الذى لا يُستطاع أن يُعبث بعقله ويُحرك أينما يشاء غيره.

يذكر لنا عبدالرحمن الكواكبي أيضًا في كتابه طبائع الاستبداد:

التربية المطلوبة، هي التربية المترتبة على إعداد العقل المتميز، ثم على حسب الفهم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، وأن تصحب تلك التربية، تربية النفس على معرفة خالقها والخوف منه.

سمرا وبيضا

عن تربية البنات، ترد إلى مسامع الكثير من الأمهات تعليقات متعلقة بالملامح الشكلية للبنت، فمن ينعتها بأنها جميلة، ومن ينعتها بأنها ليست على قدر من الجمال كأمها مثلًا، وفوق ذلك نسمع توصيفات عنصرية كهذه بيضاء اللون، وهذه سمراء اللون، هذه لها عينان زرقاوان، وهذه لها عينان سوداوان.

من هنا نشعر وكأن البنت تحفة فنية مخلوقة للزينة، ووجودها في الحياة موقوف على كونها جميلة تسر الناظرين، كم هذا سخيف! لو يعلمون كم لكلماتهم السلبية من أثر سيئ في عقول ونفوس الكثير من البنات لكفوا وسكتوا! فالثقافة التي تربت عليها شكّل كثيرًا من أسلوب حياتها المستقبلية؛ فتجد هذه لها هوس بشكلها، وأخرى تخشى العنوسة نظرًا لانعدام ثقتها بنفسها التي اغتالوها بالأمس بكلماتهم أثناء طفولتها.

وتنشأ وهي متمحورة حول الشكل والجمال وكونها مطلب كل الرجال، وعلى صعيد آخر تجد من بينهن المغرورة بجمالها، والتي ترى فيه وكأنه إنجاز عظيم صنعته في حياتها، ومن حولها يحسدونها لذلك.

ولو يعلمون، فإن الله لا يخلق إلا الجميل أصلًا، ولم يخلق قبيحًا، وأن مفاضلاتهم ومعاييرهم هذه ترجع إلى منظورهم الذي يعكس دواخلهم.

ماذا جنينا

كل هذا الخلل في النهج التربوى خلال رحلة التربية هو الذى تسبب ولو جزئيًا في كل هذا التشوه النفسى الذى نراه بيننا، وساعد فى إنتاج مزيد من الأمراض النفسية بدرجاتها المتفاوتة، وربى لنا مزيدًا من الفارغين.

وأنا لا أجزم بحتمية النتائج التي ذكرتها، ولكني وضعت بين أيديكم بعض الأسباب التي قد تلعب دورًا بطريقة أو بأخرى فيما نراه من واقع ملموس، فنحن نعلم أن لكل قاعدة شواذ واستثناءات.

المؤسف في ذلك، هو أنه على الرغم من إدراك معظمنا أو بعضنا لمواطن الخلل التربوى الذى وقع فيه من سبقونا، لكن هذا لا ينفي وقوعنا في كثير من الأحيان لنفس الشيء في علاقتنا مع أبنائنا، وهذا لأن أيسر الوسائل مؤونة وأسهلها هي التي تمرسناها واعتدناها في حياتنا، ومن ثم أصبحت تتملك جزءً كبيرًا في نفوسنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا.

ولكن لا بأس طالما نسعى مجاهدين لأنفسنا، نجتهد ونحاول كثيرًا أن نسلك مسلكًا صحيحًا ونتمرسه بالقدر ذاته، سائلين المولى عز وجل السداد والرشاد وفعل الصواب لنيل الثواب.