اصمتي هذا خطؤك
المرأة وعلاج مرض الإدمان بالكتمان
أصعب المراحل في مرض سلمى (25 عاماً) كانت تلك التي رفض فيها أهلها حقها في العلاج من الإدمان. مانعوا لفترة طويلة إلحاقها بمصحة وزيارتها لطبيب مختص، وتأخر قرارهم كثيراً قبل أن تبدأ مشوار العلاج الصعب.
لكن، لم يرفض أهل مساعدة ابنتهم؟
إلى المصحة
داخل إحدى مصحات علاج الإدمان الخاصة، والتي تقع في منطقة التجمع الأول في القاهرة الجديدة، روت سلمى (وهو ليس اسمها الحقيقي) قصتها وهي تبكي. فتاة نحيفة شعرها أسود قصير، ترتدي ملابس رياضية.
تقول إن مشاكلها بدأت مع ولادتها، فكانت الخلافات السمة المسيطرة على التعامل بين والديها. ثم جاء انفصالهما وزواج كل منهما من جديد لينشغلوا بأسرهم الحديثة وأبنائهم الجدد عن سلمى وشقيقها.
كانت مراهقة في السابعة عشرة تخشى الأفراد وتتلعثم في الحديث من فرط انعدام ثقتها بنفسها، حتى وجدت مهرباً لها في المخدرات. بدأت بتدخين السجائر ثم مخدر الحشيش وأخيراً الأفيون.
اكتشف والداها مرضها وزواجها السري من صديق يشاركها مرض الإدمان. "كان رد فعلهم التعنيف والحبس في المنزل، رافضين علاجي في مركز مختص خوفاً من الفضيحة"، تقول سلمى لرصيف22.
لكن خوفهم على بقية أبنائهم من مرضها، وبدء انتشار خبر إدمانها كان سبب تبدل موقفهم، بحسب سلمى.
"اللحظة اللي توحدت أسرتي فيها على ضرورة علاجي كانت لما عرف أقارب خطيبة أخويا السابقة بإدماني وهددوا أسرتي بالفضيحة، فخافوا على مستقبل أولادهم".
الصورة الكبرى
سلمى واحدة من آلاف الفتيات والسيدات اللاتي يعانين مرض الإدمان في مصر، ويتسبب الوصم المجتمعي والخوف من الفضيحة في عدم إقبال أسرهن على علاجهن.
عالمياً، كشف تقرير عن الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات INCB عن عام ٢٠١٦، حصل رصيف22 على نسخة منه، أن ثلث متعاطيي المخدرات في العالم نساء، لكنهن يمثلن خُمس متلقيي العلاج في العالم فقط.
كما أظهر التقرير ذاته أن المرأة أشد عرضة للاكتئاب والقلق والصدمات النفسية والإيذاء من الرجل، وأنها تتعاطى المخدرات لمواجهة ضغوط الحياة هذه.
"هناك أدلة على أن احتمال إصدار وصفات طبية للنساء بعقاقير مخدرة وأدوية مضادة للقلق أكبر بكثير من الرجال"، يقول التقرير. والنساء بحسبه يمثلن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يسيؤون استعمال وصفات الأطباء للمهدئات والمسكنات لأغراض غير طبية، مقارنة بالرجال.
في مصر، لا توجد إحصاءات دقيقة تظهر عدد المدمنات وإقبالهن على العلاج. هناك بعض النسب التقريبية، وفقاً للتقديرات التي ذكرها الدكتور تامر حسني، أخصائي علاج الإدمان في صندوق مكافحة الإدمان بمجلس الوزراء، لرصيف22، حيث يرى أن نسبة الإناث المتعاطين للمخدرات في مصر تقدر بحوالي 27% من إجمالي المتعاطين.
انتهت فترة علاج سلمى وهي تشارك الآن في مجموعات الدعم والمساندة، ومؤخراً بدأت استكمال دراستها. لكن ماذا يحل بالنساء اللواتي يرفض أهلهن علاجهن كلياً ويبقين رهائن وصمة المجتمع؟
أقوال جاهزة
شاركغرد ماذا يحل بالنساء اللواتي يرفض أهلهن علاجهن من إدمان المخدرات ويبقين رهائن وصمة المجتمع؟
شاركغردالكتمان أخطر ما تواجهه مريضة الإدمان أو من تتعرض للتحرش أو الاغتصاب، فيقول لها المجتمع "اصمتي هذا خطؤك"
الإدمان ليس حكراً على الرجال
بقي الاعتقاد الشائع في فترة الثمانينيات والتسعينيات أن مشكلة الإدمان ذكورية فقط، بحسب دكتور تامر حسني، أخصائي العلاج في صندوق مكافحة الإدمان، ما أخر مواجهة آلاف السيدات لمرضهن وتقبل المجتمع لهن.
وقد ظهر ذلك جلياً في الدراما والسينما، حيث تم طرح صورة المرأة المدمنة على أنها منحلة، ورُبط كثيراً بين المخدرات والجنس.
دفع ذلك الأهالي للسكوت على مرض بناتهن بالإدمان بدلاً من علاجهن. وعلى الرغم من أن الوقت أثبت أن كلا الجنسين عرضة للإدمان، إلا أن الصورة النمطية انتقلت من جيل إلى آخر.
ثناء (23 عاماً)، وهو اسم مستعار، ممرضة شابة رغبت في زيادة طاقتها الإنتاجية والعمل لساعات طويلة، فتعاطت دواء الترامادول حتى أدمنته.
بدأت تصاب بنوبات صرع تسقطها أرضاً، ما تسبب في إحداث خدوش وندوب في وجهها شوهت ملامحه. روت لرصيف22 قصة سقوطها في الشارع بسبب أعراض الإدمان. ذهبت إلى المستشفى باحثة عن علاج، ما تطلب مكوثها فيها لمدة ثلاثة شهور. إلا أن أسرتها رفضت ذلك تماماً، وانصرفوا من المستشفى لتستمر معاناتها مع إدمانها.
كثناء، تدخل الكثير من النساء دائرة الإدمان من بوابة المهدئات أو دواء الترامادول. وقد تحدث أخصائيون مع رصيف22 عن الأمر.
فهناك من أدمنته بعدما جلبه زوجها لها للتخلص من آلام المرارة. وهناك من طلبت من الصيدلي مسكناً فصرف لها دواءً مخدراً ومع تكرار تناولها له دخلت دائرة الإدمان.
اليوم، تعاني المدمنات من مشكلة إنكار الأسرة لمرضهن، بحسب الدكتور أحمد أبو العزايم، استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان، ورئيس الاتحاد العربي للجمعيات غير الحكومية للوقاية من الإدمان.
هذا الرفض للاعتراف ينعكس تأخراً في اتخاذ خطوات العلاج اللازمة، ويزيد من صعوبة الالتزام بالعلاج لاحقاً. دوافع الإنكار هي الخوف من وصمة العار التي تلازم الفتاة المدمنة في المجتمعات المحافظة.
لا يعترف الأهالي أن الفتاة المدمنة، كالشاب. حيث تسيطر عليها سلوكيات سلبية مرتبطة بمرض الإدمان. لكن المجتمع يكون أكثر تقبلا ًلهذه السلوكيات إذا صدرت عن الرجل. فهم لا يحاسبونه إذا تأخر خارج المنزل أو تمرد على عادات المجتمع وبدأ بالتدخين.
كما أن وسط الإدمان في مصر يتسم بالتحرش الجنسي الذي تتعرض له الفتاة، والذي يصيبها بصدمات نفسية يصعب التعافي منها، بحسب أبو العزايم. وإن شُفيت الفتاة، فإن المجتمع لا يغفر لها هذه التجارب بسهولة.
لذلك فإن معظم الأسر، لا سيما المحافظة منها، ترفض ارتباط أبنائها بفتيات مدمنات، أو حتى من باقي أخواتها وأفراد أسرتها. ما يجعل الأهل يفكرون مراراً قبل الإقرار بمرض بناتهن، وإرسالهن لتلقي العلاج في مصحة مختصة.
يوم للسيدات
تبحث الفتاة وأسرتها عن علاج بديل، يتسم بالسرية والخصوصية. بعض الفتيات يلجأن إلى المشورة التليفونية، أو الخطوط الساخنة المخصصة لمشاكل الإدمان، وهو ليس علاج جذري للمرض.
"للسيدات نصيب كبير من المكالمات"، تقول الدكتورة أماني فلاح، مسؤولة الخط الساخن الحكومي للعلاج النفسي، والذي يستقبل شكاوى واستفسارات المتصلين من كافة أنحاء الجمهورية.
"تكون الكثير من تساؤلاتهن عن مشاكل خاصة بأسرهن وخوف آبائهن الشديد على سمعتهن"، تضيف فلاح.
البعض الآخر يبحث عن المستشفيات التي تؤمن لهن هذه الخصوصية. ففي مصر اليوم، يوجد 18 مستشفى حكومي متخصص في علاج الأمراض النفسية والإدمان مجاناً، أشهرها مستشفى العباسيةللصحة النفسية، والذي كان في الماضي قصراً تبلغ مساحته 688 فداناً، وتحول ليصبح أول مكان مخصص لعلاج الأمراض النفسية في مصر عام 1883.
يتردد على العيادات الخارجية حوالي 100 رجل أسبوعياً لتلقي العلاج من الإدمان. أما النساء، فكان حضورهن شبه معدوم، لخجل بعضهن من حضور جلسات يتواجد بها رجال، ما دفع الأمانة العامة للصحة النفسية لتخصيص يوم للسيدات فقط يستقبل الحالات في العيادات الخارجية.
ووفقاً للدكتور عبد الرحمن حماد، المدير السابق لوحدة علاج الإدمان في المستشفى، فإن عدد النساء بلغ في المتوسط 40 سيدة أسبوعياً، منذ تخصيص يوم لهن.
علاج المرأة... أكثر صعوبة؟
يوضح الدكتور حماد خطورة مرض الإدمان لدى السيدات، إذ يتطور لديهن بسرعة أكبر من الرجال.
وعلاجهن برأيه أكثر صعوبة أيضاً، إذ يعانين خلال فترة الإدمان من عدم ثبات المشاعر والملل السريع، ما يتطلب صبراً من الطبيب وخبرة في العلاج.
كما أن الضغوطات الاجتماعية المرتبطة بوصمة العار تجعل المثابرة على العلاج أكثر صعوبة لدى المرأة. أو يجعلها عرضة للعودة إلى الإدمان، أو الانتكاس، بعد التعافي.
اصمتي هذا خطؤك
تعتبر نادية نفسها محظوظة لأنها خلال تجربتها مع الإدمان حظيت بمساندة أسرتها المباشرة. التزم باقي الأقارب الصمت وامتنعوا عن توجيه تعليقات سلبية لها، إلا أن نظراتهم كانت تبوح بما يفكرون.
"كانوا شايفني في حتة مش حلوة في دائرة كلها أخلاق بايظه وإنحراف" تقول نادية، وهو ليس اسمها الحقيقي، لرصيف22.
برأيها، ثقافة الكتمان هي أخطر ما تواجهه نساء تعانين من مشاكل يضعها المجتمع في خانه العيب. فيقول الناس لمريضة الإدمان ومن تواجه أزمة نفسية، أو تتعرض للتحرش أو الاغتصاب أو من تقرر دخول علاقة جنسية قبل الزواج: "اصمتي هذا خطؤك".
ترى ناديا أن تغيير الوصمة يستلزم الكثير من الوقت، لكنه يبدأ في تبديل الخطاب الديني الذي يؤثر على الكثير من شرائح المجتمع والتشجيع على احتواء مريضة الإدمان والإقرار بمرضها، أو أي فتاة مهما كان سلوكها. إضافة إلى إغلاق كافة المراكز العلاجية غير المرخصة، وضمان سرية علاج المرضى في المستشفيات الحكومية.
اليوم، تعافت ناديا من مرضها وهي تعمل مرشدة تساعد المدمنات في رحلة العلاج. تحاول مع زملائها تغيير بعض المفاهيم لدى النساء، وتشجعهن على الاهتمام بأنفسهن وعدم الاكتراث بآراء الآخرين، لكي لا يعدن للتعاطي بسبب ضغط المجتمع.