"فرشاة أنثى تعانق الأمل"..
بين الغربة والأنوثة.. عالم "سندريلا الخريف" جيهان محمد علي التشكيلي وتأثير الهجرة على الفن
تحولت تجربة جيهان محمد الشخصية في المنفى إلى مصدر إبداعي. شاركت في معارض عديدة، منها أربعة في سوريا، ثلاثة في فيينا، واثنان في إقليم كيرنتن بالنمسا، إضافة إلى معارض جماعية دولية، مما عزز مكانتها كفنانة عالمية ذات رؤية متميزة.

جيهان محمد علي هي فنانة تشكيلية سورية ولدت عام 1972 في مدينة عفرين - المصدر

من عفرين، تلك البقعة الساحرة في سوريا حيث تتجلى الطبيعة بجمالها، إلى فضاء النمسا الأوروبي الغني بالعوالم الفنية التشكيلية، تقودنا الفنانة جيهان محمد علي في رحلة لخلق أسلوب خاص ومبتكر في عالم الفن. في هذا السياق، يبرز دور رؤية المرأة كعنصر محوري؛ فهي صوت الحياة ولوحة تعكس الواقع بألوانها الطيفية المتنوعة. عندما تتداخل هذه الألوان مع الفصول الأربعة، تتحول إلى سجل تاريخي لأرض ووطن وإنسان، سواء كان مهاجراً أو مغترباً. ومع أن الغربة داخل الوطن قد تكون أشد قسوة من الابتعاد عنه، يظل الفن جسراً يربط بين الواقع القريب والغريب، حيث تتشكل كل ثورة فنية بمؤيديها ومعارضيها.
تستند ثورة الفن إلى ذاكرة متقدة تتشكل عبر تحولات زمانية مرتبطة بالتفاصيل اليومية، بحس مرهف وإدراك واعٍ. تستخدم الفنانة الألوان والفرشاة والأدوات بأسلوب يوقظ الإيحاء الروحي والإحساس العميق. عندما تواجه المساحة البيضاء، تخضع هذه المساحة لرؤيتها، مدعومة بخبرة فنية وتقنية عالية، فتجمع خيوط الشمس لتضيء عملها. هنا، تتجلى أهمية رؤية المرأة وإحساسها المرن في بناء الصورة الفنية بجمالها ودقتها.
جيهان محمد علي، المعروفة بلقب "سندريلا الخريف"، أدركت رؤيتها بوضوح، فصيغت أعمالها لتسعد القلب والروح، حتى لو كانت لحظاتها كالبرق الخاطف. لوحاتها تحمل صرخة صامتة تعبر عما لا يُقال، متحدية الخطايا التي، كما يقول الدكتور إحسان عبد القدوس، "لا تولد معنا، بل يدفعنا المجتمع إليها". أسلوبها الضمني في توظيف الألوان والفكر يعكس روحاً مغتربة، تحن إلى الوطن وأماكن الطفولة، وتعيش في عالم مليء بالتناقضات. في أعمالها، تظهر المرأة كحلم، ولادة، تمرد، صرخة، أو هيام بالواقع وغيابه في آن واحد.
في لوحاتها، تؤكد المرأة مكانتها كأساس الحياة، نورها، دفئها، وحنانها، رغم محاولات التسلط الذكوري الظاهري. لا يمكن محو دورها العظيم مهما كانت التحديات. كلما نضجت المرأة، أصبحت أكثر قدرة على احتواء عناصر التغيير والعطاء، الذي لا ينضب مهما اشتدت قسوة الغربة وآلامها. هذه الجراح تشكل الفنان وتعزز إحساسه ورؤيته، فمن محراب الغربة ينبعث الحلم والأمل والعطاء.
تتميز لوحات جيهان بألوان تأسر النظر وعناصر جمالية عالية التنقية. أشكالها تعلن حضورها، وجزيئاتها المتوهجة تنصهر مع الألوان كجمرات تبث الدفء أو بلورات ثلج تنقل البرودة حسب مضمون العمل. يتشابه هذا الإيحاء مع الشعر، حيث ينتقل الشاعر بين صور البركان والنار والأمطار والضباب، ليحمل المتلقي إلى عوالم متنوعة. يظهر هذا التقارب بين الرسم والشعر في الإيحاء، رغم اختلاف الأدوات، وقد يتكاملان أو يلهم أحدهما الآخر. لكن الفن يبقى واحداً في جوهره، بأساليب مختلفة، فكل نوع هو عالم مستقل لا يحل محل غيره.
نجاح العمل الفني يتطلب إحساساً يقظاً، مشاعر راقية، وثورة داخلية، مع اختيار وسائل دقيقة ورؤية واضحة بعيدة عن الإفراط. الخط، اللون، المزج، والمساحة تخضع للمضمون والرؤية، وتتطلب تعاملاً عميقاً مع التفاصيل. هذا ما أتقنته جيهان، التي صنعت بأدواتها أعمالاً تحمل ثورة على الذات والمجتمع، بحثاً عن خلاص ولو في الخيال، لإيقاظ الروح من وحدتها.
الخريف في رؤيتها ليس ضعفاً، بل عطاء روحي ومعنوي بألوانه الهادئة وحنانه الساحر. حلم المرأة، جمالها، وتمردها الفكري والروحي ينتشلها من واقع مؤلم كإنقاذ للروح، ولو للحظات. جيهان، سندريلا الخريف، أحيت الفصول الغائبة بجمالها وآلامها، بوعي فني يستوعب القريب والبعيد. لوحاتها تحمل تأثيراً في الطبيعة، الأماكن، والأشخاص، مع واقع جمالي وسوداوي. فنانة قوية، تجاوزت مراحل الحياة بعزيمة، مدفوعة بإبداع أصيل ورؤية تهيمن بها على فنها، لتحمل العالم على منحها التألق والإبداع.
من هي جيهان محمد علي؟
جيهان محمد علي هي فنانة تشكيلية سورية ولدت عام 1972 في مدينة عفرين، وهي منطقة تتميز بطبيعتها الخلابة في شمال سوريا. نشأت في بيئة غنية بثقافة الفرات وعفرين، مما شكل أساساً لإرثها الفني. اضطرتها ظروف الحياة إلى الهجرة مع عائلتها إلى النمسا عام 2008، حيث استقرت في فيينا، "مدينة الفكر والنور". هناك، وجدت في الغربة حافزاً لتطوير فنها بدلاً من أن تكون عائقاً، كما تعبر بنفسها: «في الغربة زاد إصراري على الاستمرار في الفن».
تتميز جيهان بأسلوب فني فريد يمزج بين حساسية الأنثى، التمرد، والتقنيات المستوحاة من الفن الحديث، متأثرة بمدارس مثل الانطباعية (مونيه)، التعبيرية (فان غوخ)، والسريالية (دالي). تتجاوز أعمالها التصنيفات التقليدية، حيث تنتقل بين الواقعية والتجريدية، معتمدة على تدرجات لونية ناعمة وأكريليك مائي تعكس ارتباطها بالماء والسيولة. تستخدم أحياناً أصابعها بدلاً من الفرشاة، مانحة لوحاتها طابعاً حميمياً وعاطفياً.
نشأت بين ثقافة الفرات وعفرين، ثم اضطرتها الظروف للهجرة إلى النمسا عام 2008 مع أسرتها. لم تكن الغربة عائقاً، بل حافزاً لتطوير فنها، كما تقول: «في الغربة زاد إصراري على الاستمرار في الفن». حملت ذكريات طفولتها بين أحجار عفرين ومياه الفرات كرصيد يغذي أعمالها في فيينا، "مدينة الفكر والنور"، مضيفة عمقاً نابعاً من الحنين والذاكرة.
تركت الغربة بصماتها على مواضيع لوحاتها وأجوائها الشعورية، فهي ترسم بروح تجمع الحنين، الألم، والأمل، كمرآة لروح تبحث عن الوطن المفقود. يصفها أحد النقاد بأن أسلوبها يعكس "روحاً مغتربة عن الوطن وأماكن الطفولة"، يتسرب هذا الشعور إلى ألوانها وتكويناتها، مانحاً إياها بعداً وجدانياً. ورغم مرارة البعد، تنبض لوحاتها بالحلم والأمل، فالاغتراب أصبح وقوداً لإبداع يتجاوز الواقع، محولاً الهجرة من محنة إلى منحة فنية تتجلى في كل ضربة فرشاة.
تحليل الأسلوب الفني
تتميز أعمال جيهان بأسلوب يمزج حساسية الأنثى ورؤيتها المتمردة مع تقنيات مستوحاة من الفن الحديث. تأثرت بالانطباعية عند مونيه، انفعالات فان غوخ، والسريالية لدى دالي، مما صقل نهجها الخاص دون حصرها في مدرسة واحدة. تنتقل بين الواقعية، التعبيرية، والتجريدية، مؤمنة بأن لكل فنان بصمة فريدة، كما تقول: «الأفكار قد تتشابه، لكن الأساليب لا تتكرر».
ابتعدت عن الألوان الأساسية الصريحة، مفضلة التدرجات الناعمة التي تعبر عن "روح اللون" وذاتها الهائمة. ترى الألوان الزيتية التقليدية ذات "سلطة أبوية"، بينما تجد في الأكريليك المائي انسجاماً، قائلة: «أنا أنثى الماء والرذاذ». تضفي هذه السيولة على لوحاتها شفافية ورمزية. تستخدم أصابعها أحياناً بدلاً من الفرشاة، في فعل حميمي يشبه الأمومة، معتبرة العمل الفني كابن تنميه بيديها، وتصف ذلك بأن اللوحة تحتاج "لمسة حس من رؤوس الأصابع"، ما يمنح أعمالها حرارة وعفوية.
تكويناتها تجمع الجرأة والجمال، مع المرأة كمحور مركزي محاط بخلفيات تجريدية تحمل دلالات شعورية. تستخدم ضربات لونية متنوعة لخلق إيقاع بصري، ويبرز تفرّدها في ألوان تنصهر بتناغم، تبث الدفء أو البرودة حسب المضمون. تجعل اللون لغة تعبيرية تصرخ وتهمس، مدمجة الواقع والخيال بسلاسة، فتارة ترسم ملامح واقعية، وتارة تذوب في مشهد سريالي، مما يكسب أعمالها غموضاً وعمقاً فلسفياً.
المرأة في تجربة جيهان التشكيلية
تشكل المرأة محور تجربتها، رمزاً للإنسانية وأداة تعبير. اختارت الجسد الأنثوي للتعبير عن قضاياها، لكنها تجاوزت النمطية، مركزة على زوايا خفية، كما تقول: «ما أراه في جسد المرأة لا يراه فنان رجل». ترسم ظل الجسد بدلاً من اللحم، معتبرة أن الظل يحمل روح الأنثى ومعاناتها، ويفوق الجسد في إثارة المشاعر. تعيد تعريف النظرة للمرأة، فتصبح كياناً نورانياً يطرح قضايا الحرية، الكبت، والصراعات الداخلية.
تعلن انتصار المرأة كأصل الحياة ومنبع الحنان، متحدية هيمنة المجتمع الذكوري. لوحاتها صرخة صامتة ضد الخطايا الاجتماعية، تجسد دور المرأة كمبدعة وموضوع، مانحة الفن رؤية أنثوية تحمل رسائل تحرر وصمود.
رؤية نقدية وتأثيرها في الساحة الفنية
حظيت أعمال جيهان بإشادة نقدية لتميزها وجرأتها. تمزج بين الغربة والأنوثة والاتجاهات الحديثة، مانحة لوحاتها نكهة خاصة. مرونتها في التعبير تضيف جمالاً وبريقاً، كما يصفها النقاد، بينما تركيزها على المرأة بمنظور جديد يمنح صوتاً مختلفاً. تكسر النمطية، مقدمة شاعرية وتمرداً يحاور الهوية والمنفى.
تقنياً، تجمع بين الفرشاة والأصابع بانسجام، وتمزج الأكريليك بروحانية وموضوعات عميقة. تتنوع أدواتها وتيماتها، مما يكسب فنها ثراءً بصرياً وفكرياً. شاركت في معارض عالمية، حاملة ثقافتها السورية الكردية، وحصدت جوائز وتكريمات، منها من رئيس النمسا السابق، مؤكدة تأثيرها العابر للحدود.
تقف جيهان في منطقة وسطى بين التجريد والمباشرة، مخاطبة العقل والقلب بلغة اللون والشكل. تثبت أن الفن يمكن أن يكون جميلاً ومعبراً، وأن صوت المرأة يثري الحركة التشكيلية. تجاوزت الحدود لتخلق عالماً بصرياً فريداً، تاركة بصمة تلمسها في كل لوحة.
المصادر:
- جريدة البناء – حوار مع جيهان محمد علي: "أرى في تشكيلات جسد المرأة ما لا يراه فنان رجل".
- عرب 22 – لقاء مع جيهان علي: "خُلق الفنانون جميعًا لأجل رسالة سامية صادقة".
- كرديبيديا – مقال: سندريلا الخريف (جيهان محمد) بقلم عصمت شاهين الدوسكي.
- موقع واحة الفكر – حوار مع جيهان محمد أجراه خالد ديريك.