يا شارع المعلا…!!
فيك الصوت أعلى… لأنه يعكس صدق المشاعر الطاغية حيث الأغلبية العظمى والثقل الشعبي والنخبوي الراجح، وحيث لا يكون تشرين الجديد إضافة رقمية لمسلسل السنين، بل غرس في عقول الأجيال الواعدة التي لا تعبّر عن قديمها الفائت المتصارع المتنافر… وسيجعل ما قبله “تاريخ” وما بعده حصاد، ومنه سيبدأ العدّ على أصابع الزمن لبلوغ عشيّة ستأتي على أكتاف الجموع المليونية، عشية الدموع المختلطة بكل ألوان الفرح.
ولأنه كذلك فلا خوف من التنوع الجنوبي العفوي الذي يُعتبر من ثوابت الأمور ومن طبيعة الأشياء ومن مقومات الحياة في كل زمان. ويختلف تماماً عن “التنوع بالوكالة”، حيث لا يجوز جمعهما في وعاء واحد، لكي لا يصيب الناس التباس إدراكي يمغنط عقرب البوصلة. التنوع الأول يأتي من خلال اختلاف الوسائل ويعكس حالة التنافس والسباق السلمي والتفاعلي لإنجاز مهمات وطنية حقيقية لا غبار عليها، أما الثاني فهو حالة معززة من خارج الحلبة ل”حرق المراكب” وتغيير المسارات بصورة جذرية. أي أن الخلاف مع التيارات التي تقاتل من أجل إعادة الجنوب إلى “ضيعة” الإقطاعيات السياسية في صنعاء، ب”ثالوثها الظلامي”، مهما كانت الذرائع، ليس تنوع بل تضاد جوهري وصراع وجودي.
وفي ذات السياق هناك فهم عميق لدى الغالبية بأن السلطة الشرعية هي واجهة مؤقتة لا حيلة لها ولا مستقبل، لأنه وفي وقت قريب جداً ستتبدل التحالفات داخلها وخارجها، وتصبح “برمزيتها المكتسبة من زمن المصائب” مجرد حديث من “أحاديث الجوى”.
لقد قطع الجنوب أشواطاً صعبة وتعلم كثيراً ولم يعد بحاجة إلى ضارب الودع أو إلى حزّاء ينظر في النجوم، فقد تعلم على الأرض من دمه، والدماء أشد واقعية من إيحاءات السياسيين الذين يسوقون مواقفهم الملتبسة على استحياء، مسيجة بالبراويز ومحملة بالتشفيرات. وأصبح يستوعب، لأول مرة في تاريخه، التنوع العابر للمناطق، متجاوزاً الولاءات الفردية والعقول الصماء التي لا يحركها الزمن ولم تتحرر من الاعتلالات التاريخية… وبدأ يمنح كلماته لغةً، ويمنح عقله جدلاً، ويفرق حتى بين “الجنون المضمون” وبين العقل العاطل عن العمل، وبدأ يتحرر من المسلمات الراسبة فيه ومن التابوهات السيكلوجية المكتسبة من تواريخ الأحاديات الصارمة. وتعلم أن الثرثرة المجانية إهانة للعقل الجمعي ومضيعة للقوة، وتعلم وتعلم… وبقي أن يردد دائماً وبصوت عال بأن الفرد لا يمثل منطقته وأن المنطقة ليست كل الوطن وأن الوطن ليس مجرد فكرة أو وظيفة أو مصلحة عابرة أو تسوية وضع خاص، بل هو “العَرَق المالح” المعجون بغبار الأيام، وهو “الغامق الكحلي” في الجسد أو النازف منه، وهو تضحيات كبرى وثبات أخلاقي وقيمي، وهو ملايين البشر الذين يبحثون عن حياة حرة وكريمة، والوطن ليس أيديولوجيا أو جماعة مصلحتها هي العليا، وليس صندوق أمنيات أو أسماء وزعامات… الوطن أكبر من كل ذلك فهو الأنا العظيمة المتكاملة المتنوعة، هو الأرض التي تبحث عن المطر والسلام والنماء وهو السماء التي تحرس هامات البسطاء.
فتعالوا أيها الزاحفون إلى ذلك الشارع العظيم، الحي المتجدد في الوعي وفي اللاوعي منذ أن رأينا الشمس العدنية الأولى، ومنذ أن لامست وجوهنا دفقات الهواء العدني الساخنة وحمّلتنا شفرات الأشواق اللانهائية لتكبر فينا تميمة للبقاء الحُرّ… إلى شارع المعلا.