ألف جلاد والضحيّة واحدة

أسمها (عدن) يعني (أقام بالمكان) فعادن تعني مقيم ، وعدن المدينة تعني "أقام بالمدينة" ، ذُكرت في (سفر حزقيال) ، موقعها الإستراتيجي جعل منها مطمعٍ للكل ، وسعت كل الأمم للسيطرة عليها وإيجاد موضع قدم فيها ، تبؤات مكانة مرموقة عندما كانت من أهم محطات تجارة التوابل التي انتعشت بفضل مكانها وفضل أمكنة قريناتها هذه التجارة لألف عام .

خلال الأربعينيات والخمسينيات أصبحت موانئها الأكثر نشاطاً على الكوكب ، وأتت الثانية بالترتيب بعد نيويورك.

لم يخلوا كتاب في التاريخ من ذكر اسمها  ، ورد اسمها وجغرافيتها ومكانتها في كتب ومؤلفات ياقوت الحموي وابن خلدون والهمداني وكثيراً غيرهم.

أيامها العصيبة لا تعد ولا تحصى ، ولكنها بقيت شامخة لم تتزحزح ، ابية لم تكن خئُون ، كريمة لم تبخل وهي ضحيّة صابرة ، حليمة ، لا تعادي أحداً  ،  ولا تكره أحداً  ، وعلى الرغم من اسواط الجلادين ، وآثار التعذيب على كل شبر في جسدها  ، إلا أنها لم تقصي أحداً ، ولم تنتقم ولا تنوي الانتقام من أحد ، وعلى الرغم من كثرة جلاديها أيضاً ،  إلا أن لا ضحيّة غيرها ، ولا قرابين تقدمها سوى رؤوس ساكنيها ، جمالها وموقعها حل وبال عليها ، أما وقد قلت ذلك فإنها لم تزل فاتنة جميلة خلابة لا ترد أحد ، كريمة مضيافة ،  لا تسأل زوارها من أي بلاد أنتم؟

لا تسألهم عن ديانتهم ولا مذاهبهم  ، ولا انتماءاتهم ، ولا تسألهم حتى عن سبب الزيارة ، متحضرة متفتحة ، كنيسة في قلبها ، ومعابد ، والمساجد في كل متر من جسمها النخيل ، الممتلئ بالندوب .

أثر الحروب والمعارك والصراعات لم يختفي يوماً عن جسدها المنهك ، ولكنها آثار تزيدها شموخ وكبرياء وشرف ، لازالت جميلة بوشاحها الأسود الذي لم تخلعه يوماً ، على الرغم من تقدمها في السن الا أنها ما زالت تسحر الجميع بحسنها وقوامها بل ويعرف جلكم أن كل هذا الصراع إنما هو من أجل كسب ودها ،  والتقرب منها ، ثم إخضاعها والسيطرة عليها وربما اغتصابها...

شرب معظم المتصارعين عليها ، خمر المحاباة والمحسوبية القبلية والمناطقية ، ففقدوا الوعي ولم تزل تلك السكرة تسيطر على اتزانهم ووعيهم ، أما عدن فلا تعرف عن نبيذ المناطقية المعتّق إلا رائحته النتنة الصادرة من أفواه جلاديها ،  ولكنها شربت من كأس الخلود  ،  فلا أثر للزمان على وجهها ، مع أنهم سرقوا منها كل شيء ، كلمات شعراءها ، وألحان أعواد فنانيها ،  وريش العزف وصوت الطبول ، سرقوا منها كل شيء ، النور ، العلم ، الثقافة ، الفن ونسبوه إليهم ، حتى الكحل سرق من أعينها ، ومع ذلك لازالت كما عهدها الجميع وفية لأهلها ، منفردة تداوي آلامها وجراحها...

فتحت ذراعيها للجميع ومازالت فاتحة الاذرع ، فزارها الفرس والهنود واليهود ، واحبها المماليك والرسوليين والطاهريين والعثمانيين والبرتغاليين ، وعشقها الإنجليز قبل أن نعشقها ، فخطفوها ردحاً من الزمن ، ولكنها استردت بالدم والبارود ، وعندما عادت إلى حضن أهلها تنافسوا وتقاتلوا عليها طمعاً فيها ، وربما حباً لها ، ولكنه حبٍ أعمى وحب قاتل (ومن الحب ما قتل) .

اما اليوم فلم تعد تحتمل هذه المعشوقة كل هذا الضيم وهذا الجور وهذه المهانة ، فهذا هو صدى نداءاتها يملئ الأفق ، تصرخ بأعلى صوتها ، مستنجدة عشاقها الرحمة والشفقة ، وبين الاستنجاد والنداء تُذكر الجميع وهي تبكي حسرة على مصابها قائلة : أهكذا يُفعل بي؟ 

أهكذا يُرد الجميل؟

وهي إلى اليوم لا تعلم -  ولا أعتقد أنها تريد أن تعلم  - أن عشاقها ومحبيها هم مجرد جلادين وسفاحين وقتلة ، أخذوا منها كل شيء وبالمقابل لم يعطوها ابسط شيء من حقوقها ..

ماء صالح للاستخدام الآدمي ، وكهرباء دائمة ، وشارع نظيف..

 

نادر الضحّاك الحالمي

 

مقالات سابقة