(مافيش فايدة فيش) العبارة التي صنعتني !

(مافيش فايدة فيش) هذه أكثر عبارة ترددت على مسامعي منذ الطفولة. كل ماحققته من نجاح إلى حد ما كان هروبًا منها، محاولة لإثبات عكسها في البداية قبل نضجي الحالي وفهمي للحياة كما ينبغي. 

"هناك فائدة كبيرة مني سأقدم الكثير للناس حولي، سأنجز الكثير " هذا ما كنت أقوله لنفسي منذ طفولتي بينما وجهي كان غارقًا في دموعه الكثيرة قبل ذهابي للنوم كل ليلة.

"مافيش فايدة فيش" باللهجة اللحجية هكذا سمعتها لأول مرة في المدرسة الإبتدائية في منتصف التسعينات . تأخرت في النطق طويلاً أعتقدت أسرتي أنني خرساء، هناك مشكلة نفسية كبيرة ترتبت جراء ذلك ، أطفال الحارة كانوا يسخرون مني بطريقة بشعةجدًا ، في المدرسة تماهت تلك البشاعة لتقضي على ماتبقى من بهجة طفولتي . استلزم الامر فترة عصيبة من الزمن لأتكلم كبقية الاطفال رغم استمرار المعاناة في نطق بعض الحروف لفترة طويلة . سخرية الأطفال حولي كنت أقابلها بالكثير من التحدي، هذا التحدي المؤلم دفعني للخربشات الأولى ، فاخترت أن اُفرغ غضبي على جدران المنزل ومن ثم مفكرتي خوفًا من ازعاج أمي لتلويثي الجدران.

أصبحت من يومها الكتابة هويتي وهوايتي وملاذي الآمن كلما ازدادت سخرية من حولي، توهجت خربشاتي الطفولية أكثر . الآن اخربش ساخرة من الجميع حولي ومن هذا العالم الذي نبذني بقسوة يومًا ما ، اخربش محبة له وتسامحًا في محاولة لإضفاء جمال ما لكل هذا القبح المحيط.

"مافيش فايدة فيش"سمعتها من معلمة اللغة العربية في حصة القراءة تلتها معلمة القرآن الكريم في أسبوع واحد ، تسبب ذلك في تحطيمي تماماً . تخيلوا مقدار الألم لطفلة في السادسة او السابعة من العمر محدودة الذكاء حسب اعتقاد من حولها بالكاد تنجح في الاختبارات ناهيكم عن صعوبة النطق والتفاعل مع المحيط ، ولا انسى هنا مسألة ضايقتني جدًا وقتها من قبل كل المعلمات اللواتي درسن اخوتي من قبل ، وانبهروا من ذكائهم ولباقتكم في الحديث ، وحين قدمت اليهم انصدموا بمستواي الدراسي الضعيف ومشاكلي في النطق التي لاتنتهي فكان لعبارة (مافيش فايدة فيش) والمقارنة بيني وبين اخوتي الكبار وقعٌ قاتل حطمني لسنوات طويلة ثم بعث من تحت هذه الحطام إمرأة لاتُهزم.. لاتموت !
اذكر جيدًا ذلك اليوم عدت للمنزل باكية، جريت للحوش اشعلت ناراً في ركنٍ ما وأحرقت كل الكتب والدفاتر وملابس المدرسة أيضًا ، انهرت باكية حتى فقدت الوعي.

حدثت الكثير من المشادات بين أهلي والمدرسة وبعد هذه القصة تركت الدراسة لعام كامل. احتضنتني أسرتي بالكثير من المحبة والحنان والتفهم، لم يجبرني أحد على العودة للمدرسة ، حتى اخوتي الكبار كانوا يتحاشون الحديث عن المدرسة امامي لابل يذهبون لبيت جدي لإنجاز واجباتهم اليومية.
أمي تقول لي كل صباح : لما تنهضين مبكرًا ، عودي للنوم ياصغيرتي. لكني كنت أحرص على النهوض مبكراً، أراقب أخوتي وهم يستعدون للذهاب لمدارسهم، أودعهم لمنتصف الحارة وأعود للنوم بعد بكاء مرير .

أتذكر أبي كان يشتري لي الكثير من القصص والمجلات، كنت اقرأها بشغف ولا أكتفي بذلك بل أذهب لمكتبته خلسة وأقلب كتبه الكثيرة، اقرأ عناوينها بصوتٍ عالٍ وصعوبة بالغة. في مرة حكت لي امي قصة لا اتذكرها الآن جيدًا لكني أتذكر ما قالته بعدها وكأنها قالته بالامس: " كل شيء في حياتنا مقدر لنا من الله، الله يحبك قد حرمك من الكلام بسهولة لكنه سيعوضك بشئ آخر أهم ، فقط تمني ماتريدين وادعي الله كثيرًا أن يمنحك اياه " ، ليلتها لم أنم، أخذت ورقة كبيرة وكتبت فيها رسالة طويلة الى الله ، سألته فيها أن يستبدل مهارتي بالنطق بمنحي موهبة الكتابة. كتلك الحورية الصغيرة من عالم ديزني (اريال) التي قايضت الساحرة الشريرة في أعماق المحيط بأن تمنحها قدمين للخروج لليابسة مقابل صوتها الجميل.

في مرة احتضنني أبي وقال لي : ستجيدين الكلام يومًا ما، لابل والكتابة أيضًا، وستبرعين في تعلم لغات كثيرة وليس فقط اللغة العربية. كنت ابتسم واهز له برأسي مبتهجة ثم أركض وأدس وجهي في صدر امي أبكي كثيرًا.

كنت أفهم كل محاولات والديّ واسرتي لإخفاء قلقهما وخوفهما من وضعي. كنت افهم كل مايدور حولي بعمق شديد ولست كما يعتقد الاخرون ولست كالصورة المشوهة التي رسمتها عني المدرسة الابتدائية. لابل تعثري الدراسي في اول سنتين كان محطة الانطلاق لكل السنوات التالية تفوقت بشكل ملفت وكنت احصد المركز الاول دون بذل جهد كبير في الدراسة.

في الصف الرابع الابتدائي قرأت قصة الموسيقار بيتهوفن كان ملهمي الأول، تعاطفت معه كثيرًا واحببته. نتشابه في الكثير عمق القسوة التي تعرض لها في طفولته، اعاقته التي صنعت منه عبقري موسيقى خالد.
في الصف الثامن قرأت رواية ( الارض الطيبة) لبيرل باك، ومن ثم توالت القراءات ولأن مكتبتي مفتوحة للجميع ومن كثر ما أعير الاصدقاء فقدت كتباً وروايات مهمة جدًا إلا هذه الرواية(الارض الطيبة) لم اعيرها أحد حتى الآن ولن افعل، لي ذكريات خاصة مع كل صفحة فيها لا اريد أن تختلط بذكريات آخرين.

لماذا تحبين الكتب، لماذا تقرأين كثيرًا؟ كل هذه الاسئلة وغيرها، كنت لا استطيع الاجابة عنها مبكرًا. فقط كنت اجد في القراءة ملاذ آمن يحميني ممن حولي، كنت اجد شخصيات كثيرة تؤمن بي وتلهمني على امتداد حياتي المضطربة، فصادقتها كلها صداقة عميقة جدًا ، كل افكار وشخصيات واحداث الكتب التي قراتها لم تخذلني قط، كانت ممسكة بيدي بقوة قبل كل انهيار وانكسار واثناءه وبعده ، وحدها من تعيدني اقوى واصلب ووحدها من استبدلت تلك العبارة التي حطمت طفولتي لعبارة أجمل : أنتِ عظيمة ياشيماء، في وجودك لهذا العالم كل الفائدة وستنجزين الكثير.

قد تعرضت لكل ما يتعرض له أي انسان، أحلام تتعثر، مشاريع تفشل، طموحات تتحطم، فرص تضيع، اصدقاء يخذلونك، يرحلون عنك بصمت دون وداع او يطعنونك في خاصرتك بمنتهى الوقاحة كتلويح أخير قبل فراق مرير، أو يموتون.خسرت الكثير من الاصدقاء موتًا وعندما ادفن احدهم اكتب تلك الليلة رسالة عتاب طويلة الى الله ، فاسمع صوتًا يهمس لي أن كل المعاناة والالام تحدث لي لسبب مهم، لاتجاوز تماماً تلك العبارة واُُخلق من جديد اقوى وانضج.

(مافيش فايدة فيش) قد تسمعها ايضًا من حبيب ليس بنفس هذه الصيغة قد تحمل صيغ كثيرة مختلفة مثل : الظروف لاتسمح، الاقدار تعاندنا، اهلي سيرفضونك، سارتبط بأخرى، حاولت وحاولت وحاولت احبك ولم استطع، اكتشفت الآن انك مجرد صديقة بس.. الخ.

كل ماتعرضت له في حياتي اشعرني بالخواء والفراغ الروحي وعبث وجودي في هذا العالم، فترن تلك العبارة القاتلة في آذني وتعيد ارتطامي في كل الهاويات السحيقة التي اعتقدت اني لن ارتطم بها مجددًا.

تلك العبارة لقد سمعتها على امتداد29 عامًا بمختلف المعاني والمقاصد من الجميع حولي والتي تتشارك كل صيغها المختلفة ذات الهدف الذي يحطمك بقصد او بدونه.

شكرًا لتلك العبارة.. شكرًا لكل من قالها لي بطريقته الخاصة. لايعلمون كم كان وقعها قاسيًا لطفلة، لايعلمون أن هذه الطفلة تحولت اليوم لإمرأة شجاعة جدًا لاتُهزم ولاتموت.

شيماء باسيد
السبت 25 نوفمبر2017