تأملات جنوبية
على امتداد التاريخ البشري كان النصر للأهداف النبيلة يتطلب أدوات ووسائل وفي المقدمة أشخاص من جنسها , لا ينكر عاقل عدالة ((القضية الجنوبية)) ولا ينكر ذات العاقل أن الأشخاص وحتى السياسات والوسائل التي رافقت مسيرتها لا تمت ولا ترتقي لمظلومية هذا الشعب ولقداسة حقه في العيش بحرية وكرامة وتقرير مصيره, وتبقى (( السلمية)) الأداة التي ترتقي لمصاف النبل والسمو التي تميز بها المشهد الجنوبي منذ بدايات تكوينه.
فوضى ((الثورة)) الجنوبية ولسنوات طويلة شكل ضربة قاسمة لها, ((دفة الثورة)) التي تحكمت بها وجوه من الماضي الجنوبي الأليم المتناحر من ستينات القرن الماضي حتى العام 1994 في هذا الجزء من البلد للأسف تراكم وتراكم وأفرز ذات البشاعة على امتداد ذات التناحر للوجوه تفسها التي تصدرت المشهد أي ما بعد انطلاق الثورة في 2007 . وكانت بتشبثها المريض وتناحرها البغيض تقوض فرص الشارع للنجاة والفوز بالمستقبل.
في أيام المسيرات كنت اسأل زملاء وزميلات : بالله عليكم كيف ترفعون صور هذه القيادات الهرمة التي ظلمت هذا الشعب البائس لسنوات؟ أي ثورة هذه التي تنشدون؟ ياجماعة ثورتنا عظيمة وسلمية كيف ننادي بالسلمية ونتعامل بمنتهى العنصرية تجاه الآخر ( الشمالي), نحن نرفع أعلام دولة ماقبل 1990 جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية طيب من فين جاء الجنوب العربي ؟ أسئلتي كثرت وتكاثرت ومافيش إجابات شافية وعقلانية, اتذكر أنه في تلك الفترة قرّح علي القولون بقوة ولم ينفع معه أي علاج إلى أن توقفت عن الحماس السياسي والحماس بشكل عام لأي شيء بالحياة عدا الإنسانية ..!
مرة من المرات قال غاندي لمن يحاولون اغتياله: إنه خطأي أنا لم أعلّمهم المحبة كما ينبغي. للأسف لم نمتلك غاندي (جنوبي) ولا حتى قيادات تؤمن بتعاليمه في النضال السلمي, كان المزاج شعبوي بإمتياز وتناحر القيادات في الخارج انعكس على الداخل بقوة والثورة فشلت في خلق قيادات صف ثاني تلملم ما مزقه الكبار.
منذ تلك الأيام وأنا أتسائل كثيرا من بإمكانه اليوم أن يمد حبل النجاة للقضية الجنوبية , القشة التي سيفرح بها الغريق, وعندما أستمر في التفكير بذلك أعيش لحظات وصراعات فكرية مؤلمة. كم يبدو لي ذلك النوع من الألم مريحا في فترات لاحقة ..وكأنه المخرج ساعتها من الظلمات إلى النور..
وماذا عن الصفوة الجنوبية المثقفة؟ كنت أبحث عنها بشغف وأتابعها عن كثب , لدينا عقول رائعة على قلتها كانت تتألم وتتوجع بصمت , لكنها لم تتجرأ على إحداث ألم ما في رأس هذا الشعب (( المخدر)) بشعارات قضيته وتناحر قياداته وأفق مجهول وواقع مزري ثم جاءت نكبة الحرب الأخيرة 2015م لتُكمل ما تبقى.
النظر عن قرب أو بعد للمشهد الجنوبي في السنوات الماضية يؤكد أن المثقفين الجنوبيين كما يبدو فضلوا مجاراة (( الشارع)) على الطرح الفكري والنقد الحقيقي للمسار الثوري, ممارسة العقل هنا قد يجلب غضب ((ديكتاتورية )) الجماهير ..فالحالة الثورية تعطي الأولوية دوما ((للشعوبية)) ونشطاء الميدان أكثر من أصحاب الثقل الذهني والثقافي وهو الحاصل حين تصدر المشهد الجنوبي لفترة طويلة وجوه لا تمت للثقافة والوعي بشيء!
صوت العقل كان غائب للأسف والحالة الثورية الشعبوية كانت فريسة لصراعات القيادات وتناحرهم.. نحن وجعنا ومشكلتنا في الوعي الجنوبي... وأي ثورة مهما كانت أحقيتها في حين لا تضرب الوعي والفكر والثقافة تصبح حمل ثقيل على ناسها وتفشل لامحالة.
الحق يحتاج قوة تحميه وإلا فسيضيع لامحالة ولن يؤمن به أحد حتى من أبنائه أنفسهم فكيف بالخارج والذي لابقاء فيه للأضعف والأجهل أيضا.
نحن لم نمتلك حامل سياسي وطني وقوي وأضعنا سنوات طويلة من النضال المتعب للناس. لكن هل نفقد الأمل للأخير؟ لا طبعًا, لكن علينا أن نفهم أن للخروج من الأوهام أفرادا وجماعات يتطلب ذلك لحظات فارقة وشجاعة تصنع الكثير من أجل المستقبل.