السير باليمن على حافة الهاوية

 من الطبيعي أن تتفكّك أجهزة الدولة المدنية والعسكرية بسبب الحرب الدائرة، فهذا يحصل في أي دولة في العالم حدثت فيها أحداث عظيمة كالتي حدثت في بلادنا، ولكن طول أمد الحرب كان القاتل الخفي لليمن؛ حيث تعددت السلطات الحاكمة في البلاد، وتحوَّل أغلب منتسبي الجيش والأمن إلى شبه مرتزقة؛ يقاتلون حيث تكون مصالحهم أعظم؛ فهم في صفوف السلطة الإنقلابية والسلطة الشرعية والمقاومة والمليشيات السلفية والحوثية والقبلية...
وبين الحين والآخر ينتقل أعداد من الضباط والجنود من هذا الطرف إلى ذاك، والعكس، ما يعني استحالة حدوث حسم عسكري لصالح أحد الطرفين بوجود داعم دولي خلف كل طرف.
والغريب في الأمر أنَّ طول أمد الحرب لم يكن نتيجة توازن القوى، بل كان مغامرة مصنوعة، شاركت في صناعتها كلّ الأطراف؛ فالدول المنتجة للسلاح تريد بيع بضاعتها؛ والدول المشاركة لأول مرة في حرب كهذه تريد تصريف مخزونها القديم وتدريب جيوشها؛ والرئيس صالح يريد العودة إلى مربع القيادة، واستعادة مكانته الشعبية، وتجميع قوته، اللتان فقدمها بسبب ثورة التغيير؛ وإيران عبر الحوثي تريد استنزاف السعودية؛ والقيادات الجديدة في السلطة الشرعية حديثو عهد بالسلطة والنفوذ ويريدون جمع ما يستطيعون جمعه من الثروة الشخصية؛ والموظفون الفاسدون بمختلف درجاتهم الدنيا والعليا -وهم الأكثرية- يريدون تدمير المرافق التي عملوا فيها خلال العقود الماضية حتى تختفي كل الأدلة على فسادهم، ويعيدون إنتاج أنفسهم من جديد، ويقدمون أنفسهم للشعب بصفتهم موظفين تكنوقراط؛ وأخيراً قوى استقلال الجنوب، وأرادت بطول الحرب تعميق الانقسامات بين فرقاء سلطة صنعاء -شرعية وانقلابية- حتى يستحيل اتحادها من جديد ويستحيل عودة الوحدة اليمنية بأي صيغة كانت، "كلٌ يغني على ليلاه".
المؤسف أنهم لم يضعوا في حساباتهم ما هي الخطوات التالية التي يجب اتخاذها خلال الحرب الطويلة... وبعدها؟ ولم يهتموا بالكتلة الحرجة من الشعب. واليوم بعد سنتين من القتال عادت الأغلبية من الشعب اليمني الشمالي للإلتفاف حول الرئيس صالح بعد ان كانت الاغلبية الساحقة مع "التحالف العربي"، وتثق فيه، ومن أجله اصطفوا خلف السلطة الشرعية على مساوئها، ولم يبق مع "التحالف" إلَّا الشعب الجنوبي، لأنَّه يريد الإنفصال، ولن يقبل الاصطفاف مع صنعاء مهما حدث، وأقلية من الشعب الشمالي.
واليوم، اليمن أصبح أطلال دولة مدمَّرة، ومن يحكم البلاد بعد الحرب يحتاج لمعجزة سماوية حتى ينهض بالبلاد خلال عشر-عشرين سنة، ليعيدها إلى ما كانت عليه قبل الحرب على الأقل، مع تأكيد ما ذُكر سلفاً، لن يستطيع حسم الصراع، بالقتال، أحد الطرفين، كذلك لن يقبل أي طرف بتسوية سياسية تحمّله تبعات الحرب من دمار وقتل وتهجير، حتى دول "التحالف العربي" لن تقبل بأي تسوية سياسية لا تبيّض صفحاتهم في هذه الحرب، وتبرأهم من أي مسؤولية سياسية أو إنسانية، وتمنحهم شرف النصر واستسلام العدو، والبطولة التاريخية، وتعفيهم من الإعمار بعد الحرب، ولذلك سيستمر الجميع في الحرب الطويلة التي خططوا لها بالأمس، وفرضها الواقع عليهم اليوم أملاً بالنصر؛ ليكتب المنتصر التاريخ، ويحمّل المهزوم كل نتائج الحرب حتى لو لم يكن فاعلها أو المتسبب بها.
هذه نتيجة إطالة أمد الحرب، وعدم وضع الخطط المناسبة للخطوات اللاحقة التي تأتي خلال الحرب الطويلة وبعدها. إنَّ المغامرة بالسير بشعب بكامله على شفير حافة الهاوية مغامرة ليست ناجحة؛ يمكن للقائد أن يغامر بوحدات معينة من جيشه وينجح، ولكنها تفشل عندما تكون بشعب بكامله؛ فالقوّات المحدودة يمكن أن تستوعب المغامرة، ويمكنها استنباط ملامح أهدافها وبعض خفاياها، ولكن الشعوب لا تستوعبها، ولا تدرك أهدافاً ولا ملامح، والشعب اليمني كسائر الشعوب يريد أن يعيش؛ لا تهمه إيران ولا الهلال الشيعي ولا القمر الأصفهاني، وليس مهتماً بأمريكا ولا بالإمبريالية العالمية، وعندما يكون الخيار بين تحرير فلسطين أو قوت يومه، يختار قوت يومه وللقدس ربٌ يحرّرها.
لقد راهن الشعب اليمني على "التحالف العربي"، لكنَّه خذلهم عندما أوكل أمرهم إلى السلطة الشرعية الفاشلة الهاربة، وفي قناعتي كانت نذر فشلها تلوح منذ اليوم الأول، لأنها خليط من انتهازيين جدد، يبحثون عن مكاسب شخصية، وممثلين عن حزبي "الإصلاح" و"المؤتمر"، الذين كانوا هم أنفسهم سبباً في وصول البلاد إلى ما وصلت إليه، وما تمر به اليوم، ولأنهم بهذا السوء، والأنانية، والفساد المالي والإداري، فقد كان متوقعاً أن يعجز الرئيس هادي عن صنع شيء نافع بهم للبلاد قبل الحرب، وللمناطق المحررة بعد الحرب، بل زاد البؤس والفساد، وعجز أن يتخلص منهم، لدعم "التحالف" لهم، فيما انضمامهم إلى "التحالف" كان واقعاً فُرِض عليهم، ولم يكن خياراً وطنياً أخلاقياً اختاروه، فالشارع الجنوبي، وكذا الشارع الشمالي، كان ولا يزال غير قابل بهم، والحوثي حينها كان سيقضي عليهم بمباركة شعبية ويتفرد بالسلطة.
لقد أصبح القتال في اليمن قتالاً من أجل القتال، لا جدوى وطنية من استمراره، فلا انتصار سيتحقق ولا استسلام سيحدث.
إنَّ الوطنية الحقة تقتضي تحول الطرفين إلى الصراع السياسي التفاوضي، الذي لو طال لعشر سنوات فهو أقل ألماً ودماراً من قتال سنة واحدة، وسيتحقق الإنتصار بتفعيل القوة الناعمة للطرفين، وأول استراتيجياتها "العدالة والحياة الكريمة"، فعندما ينفّذ كل طرف وعوده للشعب، من تنمية وازدهار وتقدم في المناطق التي يحكمها، سوف يدفع بأبناء المناطق التي يسيطر عليها خصمه للثورة، وعندها يسقط عدوه بأقل الخسائر، وتعلن الناس انضمامها إليه، ويكون المنتصر، وحينها يكتب التاريخ كما يشاء.