ومضة ضوء مشرقة في عتمة الاستعمار

زيارة ثانية للاستعمار بالاستحمار

ذكرنا في المقالين السابقين ملمح من الممارسات الاستعمارية التدميرية، وفي هذا المقال نستكمل الصورة.. ولكن في البداية نشيرإلى أن هناك ومضة ضوء مشرقة في عتمة الاستعمار عندما يقوم بأنشاء مشاريع تخدم مصالحه؛ وغالباً ماتكون استراتيجية تتجاوز منافعها زمن وجوده.. ونتذكر الاستعمار البريطاني بأهم ثلاثة مشاريع؛ أولها أنشاء موانئ عدن التي حولتها إلى مركز للتجارة العالمية، وتصدرت موانئ العالم، وتأسست أرصفة صناعة السفن، وأصبحت محطة للصيانة والتزود بالوقود على طريق الملاحة الدولية.. وثانيها إنشاء شركة مصافي عدن.. وثالثها مشروع استصلاح أراضي دلتا أبين؛ الذي يعتبر من أكبر المشاريع الزراعية في العالم آن ذاك؛ وزادت أهمية المشروع عندما أستجلبت بريطانيا بذرة القطن المصري طويل التيلة، ونجحت في استزراعها، ودخل الجنوب برصة لندن العالمية لبيع القطن..

وبعد الاستقلال 1967 عمل الاستعمار الخفي المخترق للسلطة الجنوبية -كما ذكرنا في المقال السابق- على تدمير أغلب المشاريع الإستراتيجية التي تركتها بريطانيا.. وبعد وحدة 1990 تم استكمال تدمير ماتبقى؛ حيث انتهت زراعة القطن نهائياً، وتصحرت الدلتا.. وتحوَّل ميناء عدن من ثالث ميناء في العالم إلى ميناء لايذكر، وتوقفت التجارة الدولية عبره، وأغلقت أحواض صناعة وصيانة السفن.. وقبل سنوات تم تجميد موانئ عدن نهائياً بعقد فاسد مع شركة عربية؛ ففقدت البلاد مورد هام للعملة الصعبة، وحُرِم أبناء عدن آلاف الوظائف المرتبطة بعمل الميناء.. وتم تعطيل مصافي عدن لصالح تجار شماليين احتكروا بيع المشتقات النفطية للبلاد.

وزادت الممارسات الاستعمارية لتطال كل مناحي الحياة؛ ففي مجال الأعمال النفطية تم حصر (التعاقدات من الباطن- وكالات الشركات النفطية- تشغيل العمالة- تأجير المعدات والسيارات.... إلى آخره) في شخصيات شمالية تعمل في السلطة.. ومنعوا شركة توتال من إنشاء مصفاة في ميناء الضبة-حضرموت تستفيد منها البلاد، بل حتى منعوها من إنشاء مصفاة صغيرة في المسيلة لتكرير ماتحتاجه الشركة من المشتقات وإلزامها بالشراء من شركة يملكها مسؤل شمالي.. وحدثت تواطؤات رهيبة مع الشركات الأجنبية لمصالحهم الشخصية على حساب استنزاف ثروات البلاد.. وتم حصر وكالات رئيسية كالأدوية والأغذية في شخصيات شمالية ولذلك عجز الجنوبيون بعد حرب 2015 عن توفير احتياجات البلاد من الأدوية.

ودائماً مانجد الاستعمار الظاهر والخفي يطبق استراتيجية "أنا الخير" حيث ينسب إليه كل تطور أوتقدم يحدث؛ ويمكن ملاحظة هذا من خلال متابعة كلام أركان سلطة صنعاء -شرعية وإنقلابية- عن الجنوب منذ 1994 وحتى اليوم.. مثال على ذلك؛ ينسبون لأنفسهم التوسع العمراني للعاصمة عدن، الذي بلغ أضعاف ماكانت عليه قبل الوحدة، بينما الحقيقة أنَّ الجنوبيين بنوها بأموالهم لأنَّ القوانين قبل الوحدة كانت تمنعهم.. ودائماً مايقوم المستعمر باختراق أي عمل شعبي قائم كي يسرق فخر الإنجاز؛ فهو يقوم مثلاً بمساعدة الجمعيات والعمل التطوعي والمنظمات الإنسانية بمبالغ زهيدة حتى ينسب لنفسه كل إنجازاتها؛ وكذلك تطوير التعليم بينما الموضوع مقتصر على بعض الكراسي ودهان جدران.... إلى آخره من سرقة الإنحازات

واستراتيجية التجيهل المنظم للشعب الجنوبي التي تطرقنا لبعض ممارساتها قبل وحدة 1990 في المقال السابق اتسعت بعد الوحدة متجاوزة إفساد التعليم الأساسي والعالي لتطال موظفي الدولة السابقين والمعينين الجدد عن طريق تعطيل الكفاءات بوضعها في وظائف لاتتناسب مع مؤهلاتهم مثل تعيين مهندس في وظيفة استاذ مدرسة، وتعيين معلم في وزارة الأشغال، وانتهاءً بتجهيل الجنوبيين العاملين في الوظائف الحكومية وحرمانهم من الدورات التأهيلية بهدف تقاعدهم المبكر..


ولكنَّ أسوء الممارسات الاستعمارية التي مازالت سيف مسلط على رقاب الشعب الجنوبي هي صناعة القيادات الكرتونية؛ فيعمد إلى رفعهم إلى مناصب عليا؛ كأن يجعل من سائق حافلة يحمل شهادة إبتدائية عضواً في مجلس النواب، أو يعين مزارع في وظيفة مدير عام لمرفق خدمي، أو عامل عادي في منصب قائد لواء أو كتيبة بدون تأهيل عسكري ولامستوى علمي وليس له دور قيادي في مقاومة عدن الحقيقية... إلى آخره من التعيينات.. والهدف منها ملئ حصة المحافظات الجنوبية من الوظائف الرسمية بقطيع من الجهلة الذين يمكن إفسادهم بسهولة، والسرقة بإسمهم، وجعل الصلاحيات بأيدي نوابهم الشماليين..

واليوم نأمل من التحالف العربي تطبيق المثل الصيني (لاتعطيني سمكاً ولكن علمني كيف أصيد).. بمعنى آخر؛ نتمنى عليهم استخدام خبراتهم وقدراتهم في التجارة الدولية وإدارة الموانئ العالمية في انتشال مونئ الجنوب من التوقف الذي فرضه عليها نظام صنعاء، وتعزز بعد الحرب بسبب قلة المعرفة عند المسؤلين الجدد.. ونتمنى عليهم ارسال شركاتهم المتخصصة بالصيد والصناعات البحرية للاستثمار في المصائد الجنوبية والتي تعد من أفضل المصائد في العالم، وقطع الطريق على النهب المنظم للثروات البحرية الذي تضاعف بعد الحرب.. كما أن دول التحالف هي أكثر دول العالم خبرة في صناعة النفط فنتمنى أن تدفع بشركاتها النفطية للتعاقد مع مصافي عدن لتكرير النفط وانتشالها من حالة شبه التوقف.. فتشغيل هذه المرافق الإيرادية الكبيرة يخفف العبئ على دول التحالف، وسيوفر فرص عمل لعشرات -أومئات- الآلاف من اليمنيين؛ وتقل معدلات الجريمة والإرهاب والمليشيات الغير نظامية.

*من موقع العربي