العنصرية أسقطت صالح..وستسقط غيره

لم يعد خافياً على أحد أن الرئيس صالح هو الشخص الأقوى اليوم على الساحة اليمنية.

فهو اليوم من يحدد مسار المعارك في كل الجبهات؛ فإذا قرر ثبات القوات الإنقلابية في بعض الجبهات يدفع ببعض الوحدات التابعة له من الحرس الجمهوري والجيش والقبائل لدعم هذه الجبهات، وعندما يقرر كسر "أنصار الله" (لأي سبب) يسحب قواته. وحتى لو قارنَّا اليوم بين قوته العسكرية وقوات الشرعية سنجده أكثر قوة منها، ولولا وجود طيران التحالف لكان الوضع على مسرح العمليات غير ما هو عليه اليوم.

وقد لا تعتبر قوة صالح العسكرية مفاجئة لأحد؛ لأنَّه خلال حكمه الطويل للبلاد - 33 سنة - بنى الجيش بناءً عنصرياً مناطقياً عائلياً، ولاؤه لشخص صالح وليس للوطن. ولكن الجانب الآخر من قوة صالح هو المفاجأة، أي القوة السياسية والشعبية، فهو اليوم يعتبر صاحب أقوى حزب سياسي يمني، وأكثر شعبية، بعد أن كان قد سقط شعبياً وسياسياً في ثورة فبراير 2011، ولكنه خلال العام الماضي عاد في التصاعد حتى أصبح رقم واحد في المحافظات الشمالية. وسقوط صالح شعبياً وسياسياً ثم عودته إلى الصدراة له أسباب منطقية وعقلانية تنطبق على كل زعيم سياسي أو قائد شعبي. وتناولها اليوم يمكن أن يسلط الضوء على أسباب سقوط بعض القيادات الجنوبية شعبياً بعد أن كانوا في الصدارة.


الخطأ الرئيسي الذي وقع فيه صالح وأدى إلى سقوطه شعبياً وسياسياً، أنه تمادى في التلاعب بمقدرات شعب بكامله، والتعامل معه كملكية خاصة يتوارثها. فأول حكمه بين 1977- 1984 تخلص من كل القيادات العسكرية والسياسية التي تنتمي لليمن الأسفل - الشافعي (حتى الذين دعموا توليه الرئاسة)، لصالح تعيين قيادات من يمن مطلع - الزيدي. ثم انتقل بعدها لتضييق الدائرة بحصر المناصب العسكرية والمدنية في قبيلة حاشد - الزيدية - التي ينتمي لها على حساب القبيلة الزيدية الثانية "بكيل".

وفي مطلع 1990، ضيّق الدائرة أكثر ليقصي قبيلة حاشد من المناصب الهامة لصالح أبناء قبيلته سنحان (وهي جزء من حاشد).

وفي الفترة بين 1995 - 2011، عندما قرر توريث الرئاسة لابنه العميد أحمد علي، جعل الولاء له مربوطاً بالولاء لابنه، وأصبح كل أتباعه في دائرة الإقالة والاقصاء، حتى يثبت ولاؤهم المطلق لابنه كما هو له. في كل جولة إقصاء ومحاباة كان صالح يخسر جزءاً من شعبيته وقوته السياسية. فهذا النهج - المحاباة - سواءً في إطار الجماعة أو التنظيم أو الحزب أو الوظيفة - صغيرة كانت أو كبيرة -، أو في إطار سلطة الدولة، يتسبب بمخاطر على صاحبه أولاً، ثم على التنظيم وعلى الدولة ككل. ففي إطار الدولة يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام السياسي. وفي إطار العمل السياسي والنضالي يؤدي إلى فقدان الثقة بالكيانات السياسية التي تمارس من خلالها المنافسة على السلطة، وهذا يؤدي إلى اختفاء الشعور بالشراكة الوطنية والانتماء للوطن، والأسوأ من ذلك أنه يؤدي إلى مغادرة العقول الراجحة لهذا الكيان السياسي؛ لأنها لن تجد موقعاً يتناسب مع قدراتها، يمكنها من خدمة الكيان والوطن. فالكفاءات لا تحسن الإنتماء للعصبيات الضيقة، وتذهب للبحث عن مكون آخر يعطيها الفرصة. وهذا الحال ينسحب على مغادرة العقول الراجحة لأوطانها.


وهذه المخاطر وقع بها صالح واليمن فعلياً، فحدث تفكك كبير - غير ظاهر- في عصابة السلطة التي بناها صالح. فأصبح أولاد الشيخ عبد الله الأحمر كتلة شبه معادية لصالح، وشكل الفريق علي محسن كتلة معارضة أخرى، وحدثت انتقالات من "المؤتمر" إلى أحزاب أخرى، وحدثت انتقالات من تبعية صالح إلى تبعية أولاد الشيخ عبد الله الأحمر وإلى تبعية الفريق علي محسن، وحدثت مغادرة عقول كثيرة من دائرة صالح السياسية والاجتماعية اختارت الإعتزال، وحدث نزوح لكثير من ذوي العقول إلى خارج البلاد، وكانت ثورة التغيير اليمنية في 11 فبراير 2011 القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي كشفت التفكك والانقسام، وأسقطت صالح سياسياً واجتماعياً، ما أدى إلى تركه السلطة.
لكنّه بعد انتخابات فبراير 2012، راقب مشهد السلطة الجديدة، واستوعب تناقضاتها، ورصد أخطاءها، وبدأ ببناء كيانه السياسي والاجتماعي من جديد معتمداً على أخطائها، حتى جاءت الحرب في مارس 2015 بين شركاء ثورة 2011، واستطاع استعادة كثير من أتباعه.

وتوجه نحو الشعب الذي وجده أكثر حرصاً على البلاد من حرصه على السلطة مقارنة بخصومه، على قاعدة "اختيار المفسدة الأقل ضرراً". ومع مرور الوقت واستمرار سلسلة أخطاء خصومه، استطاع بناء أكبر قوة سياسية واجتماعية في اليمن.


ختاماً أقول، إن المحاباة العنصرية، المناطقية، والعائلية كارثة على أي دولة في العالم، وهي الخطر الذي يهدد الجنوب، ولو كانت في سنوات الحراك منذ 2007 غير ظاهرة، إلا أنها ظهرت بعد حرب 2015 وأصبحت سبب صراخ الشعب الجنوبي. وهي أكثر المخاطر التي نخشاها على الجنوب اليوم؛ فهي قد تدفع العقول لمغادرة صفوف المقاومة والحراك إلى مواقع أخرى تجد فيها الإحترام والمكانة التي تناسب قدراتها، أو تعتزل العمل السياسي.

وهذا يؤدي إلى إفراغ تدريجي للثورة من الكفاءات لا يشعر به المواطن العادي، ما ينتج عنه تركز مواقع القرار في الثورة الجنوبية بأيدي مجموعة معينة هي في الأصل لا تملك الكفاءة للقيام بالمهمة الكبرى في إنفاذ إرادة الشعب الجنوبي.

*موقع العربي