اليمن بين عتبة الحرية ودرك التبعية

يقول الخبراء في ثقافة الجماهير إن الأحداث العظيمة سواء كانت طبيعية (كالزلازل والبراكين والفيضانات والسيول)، أو من صنيعة الإنسان كالثورات والحروب، تُحدث تحولات جذرية في حياة الشعوب، تغير مسار الشعوب، تغير تفكيرها، تغير أولوياتها. اليابانيون مثلاً تحولوا بعد الحرب العالمية الثانية من شعب مقاتل إلى شعب مسالم، كانوا دولة استعمارية ثم أصبحوا يمقتون الإستعمار، والألمان تحولوا من شعب نازي يحتقر الشعوب الأخرى ويستعبدها إلى شعب مسالم يسعى للارتقاء بالشعوب الأخرى.

فلماذا اليمنيون لا يتأثرون بالحوادث الكبرى؟ فكلما ثاروا على مستعمر أومستبد وقعوا بأسوأ منه، وتباكوا على السابق، وأطلقوا اسم "الزمن الجميل" على ماضٍ سيء، حتى فقدوا خاصية التأثر الإيجابي بالحوادث العظيمة، ووصلوا اليوم إلى حالة استسلام كامل للآخر، أعجمياً أو عربياً.


يُرى أن وصول اليمن، جنوباً وشمالاً، إلى هذه الحالة من الإستسلام لتبعية الآخر هو نتاج 100 عام من الفشل، وهذا ليس مرضاً متأصلاً؛ فحضارة اليمن عمرها آلاف السنين، شاركت مشاركة عظيمة في بناء الحضارة الإنسانية قبل الإسلام، وكانت عموداً رئيسياً في بناء الحضارة الإسلامية. والفشل والاستسلام للتبعية اليوم هو صنيعة النخب القائدة التي تسلطت على البلاد خلال المائة سنة الماضية، وهي نخب فاقدة للكرامة والحرية والشجاعة، اعتادت القفز إلى الصدارة بعد أن ينجلي غبار معارك الثورات، وهم قبل كل ثورة كانوا موظفين عند كل السلطات السابقة الكهنوتية والاستعمارية والوصاية التي تعاقبت على التحكم باليمن (في دولة الجنوب ودولة الشمال ودولة الوحدة)، وهم يحملون وجهين؛ وجه المستبد الطاغي القاسي مع الشعب، ووجه التابع الذليل الرخيص للآخر، وهم من يعنيهم البردوني - رحمه الله - في قصيدته "الغزو من الداخل"، عندما قال على لسانهم:


أمير النفط نحن يداك نحن حدّ أنيابك
ونحن القادة العطشى إلى فضلات أكوابك
ومسؤولون في صنعاء وفراشون في بابك
لقد جئنا نجرُّ الشعب في أعتاب أعتابك
ونأتي كل ماتهوى نمسح نعل حجابك


لكن المخيف اليوم أنَّهم تمايزوا في التبعية؛ لم يعودوا أتباع طرف واحد، كما كان أسلافهم في الماضي، فتجد فريقاً يعلي كعب إيران ومساعداتها لليمن، وفريقاً آخر يقول: بل مساعدات قطر هي الأعظم والأفيد، وفريقاً يقول الإمارات... إلخ، وحملات شكراً للدول لا تنتهي. وهذا التعظيم لأدوار تلك الدول يهدف إلى زراعة ثقافة "الشعب العاجز" في عقول المواطنين، المحتاج لوصاية الآخر، عربياً أو أعجمياً. لو كان هذا المسؤول حراً لقدم للشعب خططه، وسرد لهم إنجازاته هو، لكنّه عاجز وفاشل ويعكس عجزه وفشله على المجتمع بكامله، حتى يقتنع الشعب بأن التبعية للآخر درب الوطنية الحقيقية، ويصبح كلام ضابط إماراتي هنا، أو ضابط إيراني هناك منتهى الحكمة، وواجب التصديق والتنفيذ.


وعندما يكون الإنبطاح والتبعية من النخب الشعبية والسلطة بهذا الحال المخزي، وفي نفس الوقت تكون عند هذا المتبوع - الآخر - ثوابته الوطنية وخططه في الصراع الإقليمي، تصبح اليمن وشعبها وقيمها أدوات في يده، وكل صوت وطني حرّ يرفض الإستحمار في اليمن، جنوباً أو شمالاً، يصبح عدوه ويجب التخلص منه، بأي طريقة كانت، سواءً بالإغتيال المعنوي حتى ينبذه الشعب فيختفي، أو بالإغتيال الجسدي. إن هذا الإمتهان للوطن مقابل تعظيم أدوار الآخر قد يخلق تقسيماً جديداً لليمن لا يعتمد على الجغرافيا، ولا المذاهب، ولا القبائل، ولا التقسيم السياسي السابق لليمن؛ دولتين، بل سيكون التقسيم الجديد معتمداً على التبعية للدول؛ فهذه المنطقة التي يسيطر عليها قادة تابعون لدولة معينة يجرّون الناس للتبعية المطلقة لهذه الدولة، وتلك المنطقة تفعل مثلها، ومع مرور الوقت نجد البلاد قد تقسمت إلى عدة أقاليم حسب تبعيتها.


لابدَّ من استنهاض الوطنية المجردة للوطن، والإيمان بأن بلداً عمره آلاف السنين قاد الحضارات القديمة حيناً لا يمكن أن يصبح تابعاً لأحد، ولا يمكن أن يقبل شعبه أن يكون عالة على أحد، والشعب الذي يرفض الإستعمار لا بدّ أن يرفض الإستحمار بكل صوره، ولايمكن أن يقاوم تبعية إيران ويستبدلها بأخرى، فسيادة الأوطان لأبنائها، والتمسك بها منتهى الوطنية، ومن الجنون أن تصبح التبعية والانبطاح وطنية، وحرية الرأي خيانة وعمالة و"قاعدة" و"داعش" وحوثية وعفاشية. ولم يعد أمام اليمنيين في الجنوب والشمال من مخرج للعودة إلى مربع الكرامة والشرف واسترداد السيادة إلّا سرعة الخروج من الحرب العبثية عن طريق التنازل لبعضهم بعضاً، والقبول بالتقسيم السياسي كما كان قبل 1990 في دولتين، فهو صمام أمان الحفاظ على ما تبقى من الوحدة الشعبية اليمنية قبل أن يفرض عليهم الآخرون التقسيم إلى كنتونات - أقاليم - كل منها يتبع دولة معينة، ويخضع لوصايتها.


وبقول متنبي العصر الحديث عبد الله البردوني - رحمه الله - نختم المقال حيث قال:


فظيعٌ جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري
غزاةٌ لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغاً في سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي يؤنس وجهه الصخري
وفي أهداب أنثى في مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذٍ وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحمل وفي أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان وفي عبثية العمر
وفي عود احتلال الأمس في تشكيلة العصر
وفي قنينة الوسكي وفي قارورة العطر
ويستخفون في جسدي وينسلون من شعري
وفوق وجوههم وجهي وتحت خيولهم ظهري

*من موقع العربي