هاني مسهور يكتب:
المجلس الانتقالي الجنوبي .. وقفات ومراجعات
لم يكن اعلان عدن التاريخي مجرداً من حماسة شعبية تتطلبتها اللحظة الحاسمة من تاريخ طويل للقضية الجنوبية، فالخلفية التاريخية التي استدعت كل هذا الزخم كانت الطاغية على كل التباينات التي تم تجاوزها لاعتبار أساس هو تشكيل الحامل السياسي للقضية الجنوبية، ولاشك أن الجنوبيين لطالما عجزوا في استجماع قواهم السياسية ليحصلوا على هذا التمكين من القيمة، فمسارات القضية الجنوبية سياسياً والتي انطلقت في ٢٠٠٧م بقيت عاجزة بل أنها كرست الانقسامات الفئوية على امتداد جغرافية الجنوب.
ليس عيباً ما وقع للجنوبيين في تبايناتهم بل يعتبر امتداد طبيعي لميراث التاريخ السياسي للجنوب سواء ما قبل الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م أو ما جاء بعده من أزمات سياسية كرست بشكل مباشر التباينات المعاصرة في الجنوب، وكان من الصعوبة بمكان تفكيك ما تلبس الجنوب من تبعات للصراعات السياسية المستدامة والتي وجدت فيما بعد مارس 2015م مخرجاً عبر التوحد الجنوبي في مواجهة غزو الحوثيين لبلادهم فكانت المقاومة الجنوبية وعاءً استطاع أن يصهر الكثير وليس الكل من التباينات الجنوبية.
بعد تحرير عدن (يوليو 2015م) برزت واحدة من أهم المسائل بقبول القوى الجنوبية الانخراط في مكون الشرعية أو التمسك بالأرض وما تحقق عليها وبفرض الواقع الميداني، كانت الإشكالية في أن فرض الأمر الواقع سيدخل قيادة التحالف العربي في إحراج أمام المجتمع الدولي ومع ذلك افتقد الجنوبيين الذين دخلوا في مؤسسات الشرعية اليمنية إلى استراتيجية توضح مدى انخراطهم، فلقد أعتقد البعض أنه بالإمكان عبر التغول في المؤسسات السيطرة عليها وإخضاعها للمصلحة الجنوبية، وكان ذلك يتطلب تكوين حكومة ظل على الأقل تتعامل مع هذه الخطوة التي نتج عنها تصادمات واسعة أدت إلى إقالات شملت أغلب هذه القوى الجنوبية مما نتج عنه إعلان عدن التاريخي في 4 مايو 2017م.
بكل الأحوال ظهر المجلس الانتقالي الجنوبي وكانت أهم ايجابياته أنه يمثل الإفراز الأكثر موضوعية لمرحلة عاصفة الحزم، ففي حين أن القوى الشمالية السياسية والعسكرية وحتى القبلية لم تستطع إنتاج وجوه جديدة استطاع الجنوب من إفراز المجلس الانتقالي على اعتبار أنه نتاج حقبة وأنه متغير قادر على أن يلعب الدور المطلوب منه وهو بشكل محدد أن يكون حاملاً سياسياً للقضية الجنوبية وهذا يقتضي اشتراطاً أن يكون مظلة واسعة لكل المكونات الجنوبية مهما كانت التباينات معها.
في نوفمبر 2017م أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي عن الجمعية الوطنية وحملت صدمة غير متوقعة سياسياً فلقد تم تعيين أعضاء الجمعية في تجاوز لم يكن مبرراً وأعطى مؤشرات سلبية لطريقة إدارة القضية الجنوبية، فكان المفترض العمل على تهيئة الأجواء لعقد مؤتمر جنوبي واسع لوضع الأُطر السياسية الكاملة للقضية الجنوبية، واحدة من أهم الإشكاليات هي عدم وجود هذه الأُطر التي من خلالها في حال وجدت أن تُمكنّ للجنوبيين مقداراً قوياً أمام المجتمع الدولي بعيداً عن التوصيفات الهشة التي لن تقدم العمق السياسي ولا تعتمد في الأعراف الدولية.
تبقى وثائق المؤتمر الجنوبي الجامع مرجعية يستطيع الجنوبيين الانطلاق منها لبناء مؤتمرهم الذي سيتعين عليه رسم معالم الجنوب وتحديد ملامحه وأهمها على الإطلاق الهوية الوطنية التي مازالت في اضطرابات أزلية فبتجاوز حضرموت كهوية عميقة واستبدالها بالهوية الجهوية الجنوبية اليمنية أو الجنوبية العربية ضعفت مواجهة اليمن الأصيل شمالاً على خلفية الفرع والأصل وكان ومازال بالإمكان تجاوزها بالاحتماء بالهوية الحضرمية سياسياً.
الاعتبارات التي تقول بأن على الأفراد تقديم الدعم اللامحدود للمجلس الانتقالي تبقى اعتبارات جوفاء لا معنى لها، فالمجلس يجب تقييم أداءه ومراجعته فالاستحقاق السياسي المتمثل بالدخول في المشاورات السياسية لحل الأزمة السياسية عبر الأمم المتحدة تقتضي بالضرورة وجود مرجعية سياسية للمجلس الانتقالي الجنوبي كي لا يتعرض لعملية إقصاء منتظرة ستعمل عليها القوى اليمنية، فلا يوجد في الأعراف السياسية الدولية مرجعية تنطلق من التفويض الشعبي التي يعتمد عليها المجلس حالياً، وتذكيرا ًفأن حركة فتح الفلسطينية التي نشأت في 1958م وبرغم الدعم العربي واعتراف العواصم العربية بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني مازالت تحتفظ بمرجعياتها القانونية وهو ما سوغ إعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988م في الجمهورية الجزائرية.
الحوار الجنوبي يبقى إلزاماً لاستكمال الإطار القانوني وفتح المجلس وكذلك الجمعية الوطنية للتنافس السياسي لمختلف القوى الوطنية الجنوبية فلا يمكن القبول بمسألة التعيين تحت مسوغات الواقع ، كما لا يمكن القبول بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية محظور نشاطها في المحافظات الجنوبية دون الكشف عن قوائم الكيانات والأفراد الإرهابيين المطلوبين للعدالة، فحتى وإن كان تناغماً مع السعودية والإمارات على أساس الشراكة فهذه الدول تعتمد المرجعية القانونية وليس الشكلية التي لا تقدم أو تؤخر شيئاً.
نعم لاستعادة الدولة على حدود ما قبل مايو 1990م ولكن ليس استعادة النظام الشمولي الذي كان حاكماً منذ 1967م عندما اختطفت الجبهة القومية القرار الوطني، الجنوب يمتلك إرثاً عظيماً في السياسة والاقتصاد تم إفشاله عمداً عبر الجبهة القومية فمازالت أدبيات اتحاد الجنوب العربي التي وضعها الأفذاذ شيخان الحبشي ومحمد علي الجفري هي المرجعيات التاريخية التي ترسم ملامح المستقبل السياسي الجنوبي وهي التي نراها في الدول الناجحة ماليزيا والإمارات العربية المتحدة وكندا وغيرها من الأنظمة التي اعتمدت النظام الفيدرالي وأرست الحقوق المدنية .
السياسة عمل تراكمي متواصل يتشكل من عوامل المشاركة السياسية بين القوى الفاعلة في المجتمع الجنوبي وهذا ما عانى منه الجنوب في علاقته أولاً مع نفسه في الحقبة (1967م ـ 1990م) ثم ما عانى منه في علاقته مع الشمال فلم يتمكن الجنوبيين من التأسيس السياسي الصحيح كما لم يتمكنوا من تحقيق العدالة الانتقالية التي هي جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية، فتوالي المظالم أسهم بشكل مباشر في الاحتقانات المستدامة في كل الجوانب الطبقية والسياسية وأدى إلى احتكار السلطة والفساد بمختلف أشكاله وأنواعه.
عام مضى حمل تجربة للمجلس الانتقالي الجنوبي تتطلب مراجعة وقراءة موضوعية والانطلاق إلى رؤى استراتيجية متوسطة وبعيدة المدى تكفل تحقيق الأمن والاستقرار للمواطن الجنوبي الذي عاش أكثر من نصف قرن في تجارب سياسية فاشلة عملت على إفقاره وتجهيله بل وتشريده.