خدمة مشروع إعادة إنتاج العملية السياسية

هل انتهت لعبة السياسيين السنة في العراق؟

كتب لي أحد المتابعين لكتاباتي في جريدة “العرب” الغراء معاتبا نقدي المستمر للعرب السنة المشاركين في الحكومة والبرلمان متسائلا: هل كان بإمكانهم اتخاذ طريق آخر يلبي إرادة العرب السنة في العراق بأن تكون لهم حقوقهم ودورهم في الحياة السياسية بعد عام 2003؟ أثارت هذه الملاحظات الرغبة لدي في تأكيد مواقف وآراء الكثير من السياسيين والمثقفين العراقيين، وأنا من بينهم، الذين أفرزوا أنفسهم ومواقفهم لكي تكون صادقة وجريئة ومتطابقة مع الرأي الشعبي لأبناء العراق وفي مقدمتهم السنة المظلومين والشيعة المخدوعين.

وبعيدا عن تفصيلات مسار الموقف التاريخي الخاطئ بمشاركة السنة في حكم الاحتلال والتي كانت السبب الأول في ما يحصل اليوم من أزمات سياسية ومظلومية معفرة بالدماء والتشريد وامتهان الكرامات. فقبل إسقاط نظام صدام حسين في التاسع من أبريل 2003 فرض المحافظون الجدد في إدارة جورج بوش الابن معادلة الشراكة الطائفية الثلاثية (شيعة، أكراد، سنة)، وكان أغلب معارضي صدام من السنة في ذلك الوقت هم ممّن كانوا جزءا من إدارة الدولة، سفراء ووزراء وقادة جيش وصحافيين ومثقفين تمردوا على نظام الحكم وهربوا خارج البلد. هؤلاء لم تحركهم النزعات الطائفية ورفضوا تصنيفاتها التي فرضها مندوب بوش الابن في المعارضة العراقية حينذاك (زلماي خليل زادة) خلال مؤتمر لندن أواخر 2002، وكانوا في حوارات متواصلة مع الذين وقفوا في العلن ضد مشروع الاجتياح العسكري الأميركي للعراق ومنهم قادة حزب الدعوة وممثلهم في لندن حينذاك إبراهيم الأشيقر الجعفري.

ولكن سرعان ما تبدلت المواقف، وأصبح المعادي للأميركان صديقا ومبررا للاحتلال بعد الوصاية الإيرانية التي أعقبت اتفاقها مع واشنطن، وبعد أن طمأن الأميركان السياسيين الشيعة بأن حكم ما بعد صدام سيكون لهم عبر شراكة التحالف الشيعي الكردي. وكان بالإمكان أن تسير تلك المعادلة القائمة على ثنائية الشيعة والسنة مع دمج أفراد معارضين من السنة ملحقين بالأكراد عن طريق القائدين الكرديين جلال الطالباني ومسعود البارزاني ولا حاجة لذكر أسمائهم، فقد كان هدف هؤلاء الملتحقين المنافع الشخصية وكسب ثمن معارضتهم لصدام.

نقطة التحول الكبرى حصلت في موقف الحزب الإسلامي العراقي الذي كان يمثله في لندن إياد السامرائي وأسامة التكريتي، حين وافقا على المشاركة في صفقة الاحتلال باعتبارهما يمثلان حزبا إسلاميا سنيا يقابل حزب الدعوة الإسلامية الشيعي رغم الفوارق التنظيمية والمنهجية لاستكمال المعادلة الطائفية الثلاثية (سنة، شيعة، أكراد)، وكان ذلك قبل أن يظهر بعد 9 أبريل 2003 أفراد أدعوا أنهم معارضو الداخل وأنهم يمثلون السنة في العملية السياسية، ولم يكن لهم وجود يذكر قبل 2003، لأن المعارضين بالسرّ كانوا في أحزاب إسلامية كالدعوة والإخوان المسلمين وبعض المنتمين للحزب الشيوعي وتيارات قومية مشتتة، ومن أراد خيار المواقف العلنية هرب إلى طهران أو لندن أو منطقتي الأهوار والأكراد اللتين أصبحتا حاضنتين للمعارضة بعد عام 1991 ولا يوجد بينهم من يدعي تمثيل العرب السنة.

الحزب الإسلامي العراقي كان رائدا في ركوب قطار العملية السياسية لقناعات سوّقها بأن لا خيار له غير ذلك للحصول على فرصة النشاط السياسي بعد الاحتلال، مما ورّط قادته في الموافقة على جميع الإملاءات التي وضعها الحاكم بول بريمر، وهذا الحزب يتحمل المسؤولية في ما سمّي بتبعية شراكة السنة في العملية السياسية. كان بالإمكان رفض الشراكة والبقاء في صفوف المعارضة السلمية كغيرها من المعارضين، لكنها السلطة. لكن ما حصل في الأشهر الأولى بعد مجلس الحكم هو عبارة عن مباركة أولية لحكم السياسيين الشيعة عبر الانتخابات المزيّفة، حيث برزت بعض التجمعات التي حسبت نفسها على العرب السنة ووضعت لنفسها عناوين للشروع في أول انتخابات عام 2005 بعد فترة حكم إياد علاوي والتي كانت بمثابة مرحلة تدريب للكوادر الإسلامية الشيعية للهيمنة على الحكم بدعم من بريمر، وبدأت رحلة الانقسامات داخل الأوساط السياسية السنية التي تعددت أشكالها بتشجيع من الأميركان.

وكان التنافس شديدا بين العناوين السنية لمن يقفز إلى المقدمة ويحظى بموافقة الأميركان الذين تغلغلوا داخل الطبقة السياسية العراقية الناشئة، حيث تعرفوا على نمطين طائفيين، سني وشيعي، لاختيار الأكثر انبطاحا ونفاقا وسطحية. بعد أن أهملوا وتجاهلوا النخب الفكرية والثقافية صاحبة القدرة على التعاطي الحرفي مع شؤون السياسة، وأغلبهم من معارضي صدام غير الطائفيين. وتم الترويج لاحقا لفكرة أن عنوان “معارضة صدام” كبطاقة دخول للعملية السياسية يقتصر على الشيعة والأكراد، ولهذا صدم أولئك المعارضون الليبراليون من خارج اللعبة وخذلوا من قبل الأميركان ووجدوا أنفسهم بعد شهور قليلة خارج ساحة العمل السياسي.

حصل الذي حصل في مسلسل الموافقة على القرارات العليا بين الأميركان والشيعة والأكراد في مقدمتها تسويق وثيقة الدستور الكارثي وعدم معارضة سيطرة الإسلاميين الشيعة على الحكم تحت شعار “الغالبية الطائفية”، وكان الإخوان المسلمون في العراق تحت عنوان الحزب الإسلامي الأكثر اندفاعا للعملية السياسية من غيرهم. وغالبية هؤلاء المستجدّين بالشؤون السياسية لم يكونوا يتوقعون أن يلتقوا بملحق في السفارة الأميركية، فكيف بسفير؟

قال لهم الأميركان لكي تتمكنوا من الدخول إلى البرلمان عليكم الذهاب إلى جمهوركم وتقنعوه بالولاء للوضع الجديد، وتحاصروا وتعزلوا المعارضين والمقاومين بالسلاح عن حاضنتهم السنية، فتم تشكيل العناوين المعروفة مثل جبهة التوافق من الحزب الإسلامي وجبهة الحوار ومؤتمر أهل العراق، حيث تصدرت قيادات الحزب الإسلامي ماكنة الدخول والدفاع عن العملية السياسية، رغم أن غالبية قادة هذا الحزب قد انشقت عنه في ما بعد، مثل حاجم الحسني وطارق الهاشمي ومحمود المشهداني.

كان هاجس الأميركان هو المقاومون المسلحون من البعثيين وغيرهم من المدنيين والعسكريين ضمن الفصائل المقاومة التي بدأت عملياتها ضد الاحتلال الأميركي من دون واجهات سياسية ما عدا هيئة علماء المسلمين ورئيسها الراحل حارث الضاري. ما جعل تلك الدكاكين السنية تستغل فعاليات المقاومة المسلحة للكسب الذاتي خلال حوارات الحصول على المنافع من العرب تحت شعار “الدفاع عن العرب السنة “، ليجلبوا رسائل خطيّة تخول لهم الحديث بأسمائهم في حوارات جني المكاسب، كما سوقوا للعبة الازدواجية، حيث قالوا لمعارضي العملية السياسية “لا خيار أمامنا إلا العمل من داخل العملية السياسية، هل نذهب إلى المقاومة المسلحة أي تنظيم القاعدة.. أنتم أيها المعارضون حافظوا على دشاديشكم نظيفة ودعونا نحن “ملطّخين” نقاتل نيابة عنكم داخل العملية السياسية”. وحين يجلسون مع الأميركان والقادة الشيعة يقولون لهم “انظروا الشعب السني يريدنا وينتخبنا”، معتقدين أن الأميركان أغبياء عن لعبة التزوير في الانتخابات لأن ما يهمّهم هو الحفاظ على أضلاع المثلث الطائفي حتى وإن كانت مضامينه مزيّفة. استمرت هذه اللعبة بانغماس من يسمون أنفسهم بالعرب السنة في سلطة المكاسب، فمرة يميلون إلى قائمة علاوي لأن عنوانها غير طائفي، ومرة أخرى يذهبون إلى الحزب الإسلامي لمنافسة قادته في تمثيل السنة.

تعقدت حالة العراق بعد عام 2006، حيث انفجار الحرب الأهلية الطائفية، مما دعا إلى إنتاج لاعبين هامشيين أطلقوا على أنفسهم وسطيين بين السنة، فلا يُستغرب أن يصبح بعضهم وسيطا بين رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وبين قادة منصات الأنبار الاحتجاجية عامي 2011 و2012 التي اتضح في ما بعد أنها استغفلت المواطنين المقموعين من العرب السنة لتحقيق أهداف من بينها شروع داعش باجتياح العراق الذي أنهى دور المزايدين وألاعيبهم النفعية.

كان مخطط التحالف الشيعي الإجهاز على العناوين السنية التي قد تخلق لهم مشكلات، والإبقاء على قادة الحزب الإسلامي الجدد مثل رئيس البرلمان سليم الجبوري الذي أثبت أنه أكثر قدرة على الخضوع لإرادة القوة “الشيعية الحاكمة” ومن خلفها طهران، وغيره من الأسماء المدافعة عن الوضع الطائفي والعملية السياسية حتى في مأزقها الحالي، ولعل كثيرين داخل ما سمّي بتحالف القوى السنية مدافعون أشداء عن قيادة التحالف الشيعي في الحكم، ويسعون معهم لخدمة مشروع إعادة إنتاج العملية السياسية للمرحلة الانتخابية المقبلة.

وجميع هؤلاء الواقفين على منصة الدفاع عن الوضع الحالي ممن يدعون تمثليهم للعرب السنة هم من أعمدة الفساد والفشل، وهم يشتغلون في الوقت الضائع ويستغلون ما يعيشه جميع أبناء العراق سنة وشيعة من ترد وخذلان، بسبب سعي القوى الخارجية، أميركا وإيران، لإبقاء العراق مفككا ضعيفا، وعلى طريق الانقسام الطائفي. فأي تبرير يمكن أن يقدمه هؤلاء أمام العرب السنة بعد 14 عاما من الأزمات. فهل يستحقون من يدافع عنهم؟

كاتب عراقي