الاستعمار بالاستحمار
تحدثتنا في المقال السابق عن تبعية النخب والقيادات لدول أخرى، وقلنا أنَّها تصل إلى إمتهان الوطن ووسم الشعب بالعجز والفشل، وواجه هذا الطرح انتقادات قد يكون سببها اختصار الفكرة؛ ولذلك سنكتب المزيد ونتعمق في البحث حتى تتضح الرؤية أكثر.. فالتبعية في الأصل نوع من أنواع الاستعمار الحديث، استعمار خفي-اختياري..
والاستعمار قديماً عرف بأنَّه (نزول جيش دولة معينة على أرض دولة أخرى لفترة زمنية مؤقتة تضمن له تحقيق مصالح ومكاسب محددة ثمَّ يغادر، أو بقاء دائم بهدف ضم وإلحاق نهائي بإدارة عسكرية ومدنية، ويستعين بموظفين من أبناء المستعمرة لمساعدته في إدارتها حتى تذوب هويتها في هوية الدولة الإستعمارية).. ولكن هذه المصالح في العصر الحديث يتم تحقيقها بآليات أخرى -ومنها التبعية- ولاتحتاج لنزول قوات بل يتم تحقيقها بأبناء البلد نفسها، وتتم بطريقتين؛ الطريقة الإولى مباشرة؛ باستخدام شركات أمنية عالمية مثل "بلاك ووتر" تقوم بمقام القائد الخفي والمخطط والموجه الذي يدير العملية الاستعمارية؛ وتقوم هذه الشركات بتشكيل عدة مليشيات بمسميات وطنية، واللجان الشعبية الحوثية الموازية للجيش أحد أشكال هذه المليشيات.. وتقوم الشركات أيضاً بتشكل أجهزة مخابراتية لجمع المعلومات، واغتيال الأصوات الناقدة الحرة بدون ضجة إعلامية "إغتيال معنوي أو جسدي".. والطريقة الثانية غير مباشرة؛ وتتم باستخدام السلطة الحاكمة نفسها، فتقوم بمهام استعباد الشعب وتسخيره للمستعمر؛ وتدفعها إلى تشكيل وحداتها المسلحة -الجيش والأمن- بحيث تنتمي كل وحدة عسكرية إلى منطقة أو قبيلة أو طائفة معينة، وبدون عقيدة عسكرية وطنية واحدة تجمعها بل بعدَّة عقائد.. ثم ينتقل المستعمر إلى الإعلام ومنظمات المجتمع المدني؛ فيقوم بشراء ولاء وسائل إعلام محلية وصحفيين وأدباء وشعراء ومفكرين وفنانين؛ وكلهم يعملون في اتجاه واحد مهما كانت خلافاتهم؛ فالإتجاه هو رفع مكانة هذا المستعمر المتخفي بعباءة دولة (داعمة- شقيقة- صديقة- حليفة- تكتل).. وتجسيد ثقافة الدونية لدى شعبهم، وتضع في طريقه المعوقات التي تمنعه من النهوض، وتقطع الطريق على كل محاولة وطنية للخلاص من الاستعمار الاستحماري.. و "التعويق" عملية مدروسة تستهدف العقل والمعدة؛ فالعقل يتم تعويقه بالتجهيل الدراسي، والمعرفي، وتزوير المعلومات، وتشويه الحقائق.. والمعدة يتم تعويقها عن طريق "الافقار" الدائم والحاجة للقمة عيشه.. وهذا يؤدي إلى سقوط الشباب في مهاوي الخطأ؛ فيتحول بعضهم إلى لصوص، وقطَّاع طرق، وإرهابيين، وموظفين فاسدين، وعصابات.
ويستمر تعزيز هذه الحالة ومايترتب عليها من إنهيار مجتمعي حتى يستمرأ الناس الوضع الجديد فلايستحي المخطئ منهم من المجاهرة بأفعاله، ولايلومه لائم.... ومع مرور الوقت يعجز هذا الشعب عن الخروج من هذه الهوة السحيقة التي أوقعوه فيها.. مايدفعه للتمسك بالتبعية للمحتل الخفي بدعوى أنَّه المخرج الوحيد لأنّ الشعب مازال قاصر وغير قادر على إدارة نفسه بنفسه. ويمكن أن نقول أنَّ الجنوب بعد الاستقلال في 1967 وقع تحت طائل استعمار خفي استغل عدم كفاءة وخبرة القيادات الجنوبية الذين حكموا الجنوب بعد الاستقلال، وأنهم كانوا مشتتي التبعية (روسيا-الصين-قومية عربية تتبع عبدالناصر، وأخرى تتبع جورج حبش، وأخرى نايف حواتمه) فوقعوا في مستنقع المحاصصة، وعجزوا عن بلوغ مستوى القدرة على اتخاذ القرارات الخالصة للوطن بالإجماع، فكانت قرارات توافقية تسترضي كل طرف ومن يقف خلفه.. وبهذا الوضع استطاع الاستعمار اليمني الخفي توجيههم للسير في الطريق التي يريدها، وهي إفقار الشعب الجنوبي وتجهيله حتى يصل إلى حالة استسلام جماعي "سلطة وشعب" بأنَّ طريق انقاذ البلاد هو الوحدة.. وقد نجحوا في ذلك فوقع الجنوب في 1990 تحت أيديهم .
ويمكن أن نصف ماحدث في الجنوب بين 1967-1990 بأنه ككفتي الميزان؛ فحتى ترتفع كفة يجب أن تنخفض الأخرى؛ فحتى يضمن الشمال أمنه القومي كان عليهم تدمير مقومات الأمن القومي الجنوبي، وأولها كان الجيش والأمن؛ فتم تفكيكها وإضعافها بكل الوسائل "ناعمة وعنيفة" وفي نفس الوقت تم بناء جيش وأمن في الشمال أكثر قوة بالعدد والعتاد.. وتم إيقاف الصحف وكل المنابر الثقافية والمعرفية ودور النشر في الجنوب، والإبقاء على تلك التي تخدم مصالح الاستعمار الخفي، وبالمقابل تم في الشمال بناء قوة معرفية وصحافة ونشر تقود الشارع وتوجهه.. وتم التلاعب بالمناهج الدراسية في الجنوب وتحويل مخرجاتها إلى أشخاص يحملون شهادات بدون علم، بينما في الشمال تم بناء المدارس والجامعات وتحقيق تعليم حقيقي بحدود الإمكانيات المتاحة.. وحتى تضمن الشمال أمنها الغذائي والتفوق الإقتصادي تم تدمير البنية التجارية في الجنوب، وتوقيف الاستثمار، وتدمير الزراعة، والصناعة الحقيقية.. وغادرت العقول، والفنيون،والصناعيون، وغادر رأس المال والاستثمار إلى خارج الجنوب بسبب قرارات تأميم هوجاء وقوانين غبية.. وكان الشمال أحد المواقع التي ذهبوا إليها . ختاماً أقول؛ إن الاستعمار الجديد لن يتوقف إلى يوم القيمة؛ وعلى الجنوبيين الحذر من الوقوع فيه مرَّات أخرى، وللحديث بقية.