أزمة العقل الجنوبي

الجنوب.. سريالية المشهد والولادة من الخاصرة

بعد انتصارات ٢٠١٥ وقف الجنوب لأول مرة أمام المرآة، مجرد من كل شيء إلا من تراكمات الزمن الرديء ومخلفات الحروب، ومن مغناطيس الذكريات المكدسة في أسواق التاريخ السياسي كالمانيفاتورات القديمة. فليس لديه أحزاب ولا تكتلات، ولا مقاومة موحدة.. صادق وشجاع ونازف لكنه أعزل سياسياً وقليل الحيلة.

صورة محبطة، يوازيها غياب كبير للمفكرين من أصحاب القدرة على القراءة في العمق وتحديد "أزمة العقل الجنوبي" الذي يبدو بأنه ما يزال يحبو حتى بعد أن كبرت فيه المراحل. ربما لأن التاريخ السياسي كان مختزلاً بحالة ايديولوجية طائشة ومتمردة على الزمان والمكان، فلم تتكوّن جذور قابلة للنمو ولم يُفرز سوى "عقل قياسي" عاجز عن الإبداع والخيال.

أزمة العقل الجنوبي أصبحت شديدة الوضوح الآن وهي أزمة مركبة يتساوى عندها القائد التاريخي وبائع البطّيخ.

فالناس في الجنوب ""لا تربط بين المقدمات والنتائج""، بل تذهب إلى استحضار الأهداف دون أن تنجز لها الأفعال اللازمة. وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل، لكنه ليس مجالنا.

الإنتصارات التي حققها الجنوبيون في سياق الحرب اليمنية-اليمنية بأبعادها الإقليمية لم تشفع لقضيتهم في أن تأخذ مكانتها الطبيعية في مصفوفة الحلول المرجوة، مع أن الجنوب فرس الرهان في فضاء المواجهات، حتى وأن كان لا يمتلك أيّ بيّنة حول الوجهة الأخيرة لرياحها.

ذلك يجسد كثير من المخاوف المشروعة بعد أن ظن الجنوبيون أن الآفاق قد انفتحت. لهذا فإن موسم القلق البنَّاء قد حان، فمن لا يقلق من سريالية المشهد الحالي ستسحقه الغفلة وتصدّره في أحسن الأحوال إلى واقع لم تعد فيه أي خيارات متاحة عدا الإنصياع لإرادة الآخرين. أي أن المقدمات حتى اللحظة تؤكد بصورة واضحة بأن الجنوب "كجنوب" بما حمل واحتمل يشكل طرفاً في الصراع لكنه ليس طرفاً رسمياً في التسوية، وأنه في السياق العلني العام "حتى اللحظة على الأقل" لا يعدو كونه مصدر ومورد قتالي يتم توظيفه كأدوات متفرقة، في مجريات حرب ذات أهداف سياسية معلنة.. ولا شأن له بما قد يطرأ عليها من متغيرات وفقاً للتوافقات الإقليمية والدولية.

وأمام معطى التحالف الضروري مع السلطة الشرعية في إطار عاصفة الحزم، يذهب الجنوب في مسارات الحرب بصورة عفوية، لا عقل سياسي يوجه البندقية ولا بوصلة تحدد الاتجاهات الصائبة، حتى أصبح مقيد بالتزام مزدوج، تارةً لقواعد الاشتباك التي فرضها الصراع على السلطة في اليمن.. وتارةً لخيارات دول التحالف التي لا يبدو أنها موحدة تجاه الجنوب وتجاه اليمن بشكل عام. والواضح أن هناك سباق غير معلن لاحتواء الجنوب والسيطرة عليه تدريجياً حيث يتراجع الصوت الوطني الجنوبي مقابل أصوات أخرى متعددة ومتناقضة، مع إبقاء المقاومات الجنوبية مشتتة، تعمل كحاميات وكتائب وأحزمة متفرقة ومنعزلة تحت إمرة أبي زيد وأبي عمر.

السلطة الشرعية من ناحيتها "باقية على أهوالها"، مجتهدة قولاً وفعلاً لتثبت أن الجنوب لا يعني لها شيء، سوى أنه قاعدة لوجستية وبشرية للمواجهات القتالية من أجل العودة إلى صنعاء، متغافلة عن حقائق التاريخ بأن صنعاء لا تُحكم إلا من أهلها ومن يأتي من خارجها سيحملوه أوزارها ليذهب مذموماً في سجلات تاريخهم.

الجنوبيون إذن يقفون اليوم دون عقل سياسي يوجه الميدان لخدمة قضيتهم المصيرية، تناوشهم حالات اللايقين، بانتظار مفاجئات وافدة أو ولادة من الخاصرة. وهذا مؤشر يثير حالة من الإحباطات التي ستدفعهم نحو قناعات سلبية ومتاهات يومية تجبرهم على تقديم تنازلات غير مدروسة ليجدوا أنفسهم مهرولين بلا رؤية إلى قيعان لا قيعان لها. فاليمن، للتذكير، تتنازعه ثلاث قوى كبرى إلى ما شاء الله، لا تختلف من حيث جوهرها الإجتماعي وعقلياتها وثقافاتها، كما أنها لا تختلف في مواقفها من الجنوب، الذي لا يعدو في نظرها كونه مورد و"تابع طيِّع" وامتداد لسلطانها، حتى لو اختلف الخطاب وتباينت الوسائل، فكل واحدة منها لها ثورتها المسجلة بإسمها ولها شعبها اليمني الخاص بها ولها وطن لا ترى فيه شيئاً غير السلطة.. وكل واحدة من تلك القوى أشد خطورة من الآخرى.

ما تزال أمام الجنوب فرص عظيمة حتى الآن للذهاب نحو تقرير المصير، فالحمض النووي للحراك الجنوبي لم يتغير وما يزال نابضاً بالحياة.. لكن الفرص إن تغيرت أو استُبدلت في لحظة ضعف وارتباك سيُسدل الستار على العرض التاريخي ربما إلى غير رجعة.