عبد الرحمن شلقم يكتب:

لقاء ترمب وكيم... المشهد والمضمون

الملايين في مشارق الأرض ومغاربها سافروا بعيونهم وآذانهم بل وقلوبهم، مع الرئسين الأميركي والكوري الشمالي إلى سنغافورة. اللقاء بين الرجلين في حد ذاته مشهد مكثف وفارق ليس سياسياً فقط بل إنساني. الزعيمان اللذان خاطبا بعضهما منذ أيام قليلة بلغة «الأزرار» النووية، تصافحا بحرارة على شاشات التلفزيون.

المشهد.. الرئيس دونالد ترمب عمل في شبابه ممثلاً ومذيعاً، كان نجماً تلفزيونياً له شخصيته وتفرده. وفي حملته الانتخابية الرئاسية استطاع أن يفرض حضوراً فارقاً في مواجهة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. الرئيس الأميركي الأسبق الجمهوري ذو الكاريزما القوية رونالد ريغان كان أيضاً ممثلاً، استطاع أن يجرف بحضوره الطاغي كل من وقف في وجه سياساته. أقحم الزعيم السوفياتي الأسبق في مباراة مرهقة كان عنوانها «حرب النجوم» لم يستطع غورباتشوف إكمال السباق، سقط وانهار الاتحاد السوفياتي.

منذ دخوله المعترك السياسي، لبس ترمب قفاز الملاكم المهاجم. من برنامجه الانتخابي الذي ارتفع فوق جميع ناطحات السحاب الأميركية، إلى لغة لسانه وجسده التي تهاجم دون تردد. 

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، لا يعرف خرائط هوليوود ولا مسالك السياسة الدولية. ورث إقطاعية معزولة عن الدنيا ينخرها الجوع والعقوبات، وإلى جانبها دولة شقيقة تعيش حالة فريدة من الرفاهية والديمقراطية وحكم القانون. المشهد الذي ألفه الشاب الزعيم الأوحد هو دائرة ذاتية بلا منافس أو معارض. ضاقت حوله حلقة العقوبات الدولية وصارت خانقة وازدادت ضيقاً بعد انضمام الصين لتلك العقوبات التي فرضها مجلس الأمن، والصين تكاد تكون الرئة الوحيدة التي تتنفس بها إقطاعية كيم. 

العلاقات الأميركية - الكورية الشمالية حكمها على مدى عقود موروث ثقيل تراكم عبر سخونة من العداء لم تبرد. الحرب الأهلية الكورية لم تنتهِ. هناك اتفاق هدنة بين الشطرين ولكن البلدين بقيا ميداناً ساخناً للحرب الباردة على مدى عقود بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مع وخزات صينية.

المشهد.. أو الزخم المرئي الصادم هو القوة المجنزرة بالنسبة للرئيس ترمب في معاركه السياسية الداخلية والخارجية مع الحلفاء والخصوم. آخرها موقعة كندا السباعية. كيم جونغ اون، دخل حلبة المشهد وهو يعلم أو أُعلم أن ظهوره مع الرجل الأقوى في العالم سيفتح له أبواباً على رحاب الدنيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً. فبعد الانغلاق والعزلة المطلقة يحقق اختراقاً أسطورياً عبر الظهور الحميم مع العدو التاريخي والرجل الصارم المداهم.

مصافحة أمام شاشات العالم وجلسة ساعات معدودة لا تغمد سيف الصراع الذي استمر لعقود. ولكن محفل المشهد قد يصنع كيمياء شخصية بين الزعيمين، ويؤسس لالتزام معنوي أمام الرأي العام العالمي. لقد أعاد تلفزيون كوريا الشمالية مراراً قبل قمة سنغافورة مشهد المصافحة التاريخية بين الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ والرئيس الأميركي الأسبق نيكسون لاستدعاء الدلالات المكثفة المسبقة للمشهد المماثل الجديد.

المضمون.. من البديهي أن ركام سنوات من العداء لا يمكن إزالته بمصافحة أو جلسة قصيرة. السلاح النووي والصواريخ متعددة المدى هي لب الأزمة، لكن الملحقات الأخرى ليست أقل تعقيداً. ماذا سيأخد كل طرف وماذا سيقدم؟ أميركا تعتبر أن إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي هو البداية. كوريا الشمالية أعلنت مسبقاً استعدادها للقيام بهذه الخطوة، مقابل قيام أميركا بإخلاء كوريا الجنوبية من أسلحتها وقواتها وتقديم ضمانات أمنية كاملة ومضمونة وتطبيع العلاقات بين الطرفين. التخلص من المخزون النووي لبيونغ يانغ يكلف المليارات، من سيدفع ذلك؟ ترمب يأخد ولا يعطي، هل سيقوم المجتمع الدولي بتغطية ذلك عبر الأمم المتحدة أم أطراف أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية؟ 

ماذا ستأخد كوريا الشمالية. رفع العقوبات الأميركية والدولية عنها مطلباً أساسياً وتقديم مساعدات وتسهيلات وتشجيع الاستثمارات الأجنبية لتطوير البنية التحتية ورفع مستوى المعيشة بخلق فرص عمل للآلاف الكوريين الشماليين. هنا العقدة الكبيرة التي ترعب نظام حكم كيم، فتلك الخطوات تعني فتح أبواب البلاد التي أغلقت لعقود أمام تدافع الشركات الأجنبية ومعها حشود من رجال الأعمال والخبراء الذين يخالفون ويختلفون مع كل ما هو قائم في بيونغ يانغ. 

الثقة.. هي الغائب الحاضر في التعامل بين القوى السياسية المتخاصمة. لكنها سلاح السلام الذي تحتاج صناعته إلى تقنية معقدة وزمن طويل يخضع فيه السلوك من كل الأطراف للاختبار.

الأطراف الخارجية لها حساباتها المختلفة. الصين بسياستها البراغماتية الجديدة التي ألغت مصطلح «العدو» من لغتها ساهمت في إعادة إنتاج الشاب كيم جونغ أون بلا شك، وتحرص على قيام كوريا شمالية جديدة توظف قدراتها العلمية والتقنية والبشرية في برامج التطوير والنهوض بالبلاد على غرار التجربة الصينية. فهل يستطيع الشاب كيم أن يكون هو دينغ هسياو بينغ الصيني بعد أن كان هو ذاته ماو تسي تونغ وأباه يونغ وجده سونغ؟ 

الصين هي الحاضر الفاعل الدائم في كامل الكيان الكوري الشمالي منذ البداية إلى اليوم، ولا غد بدونها، الأمن هو المكمن الأساسي لكيمياء الوجود والهوية لنظام الحكم الشمولي المطلق في كوريا الشمالية، والصين تتوفر اليوم على كل الخبرات والقدرات التي تحتاجها كوريا الشمالية. أولها كيفية تحويل الحزب الشيوعي إلى أداة إدارية وأمنية واقتصادية بما لا يهز أساساً النظام. وثانيها أن تتقدم الصين بإمكانياتها المالية جحافل المستثمرين، وتكون لها اليد العليا في إعادة إنتاج النظام والبلاد. ستكون بكين هي القاطرة التي تقود عربة ما بعد المصافحة بين ترمب وكيم. الضمانات الأمنية التي وعد بها ترمب لن يركن إليها الزعيم الكوري الشمالي إذا لم تكن ممهورة بضمان صيني. 

المشهد الذي قدم ضربة مسرحية، يبقى خلفه عدد هائل من المشاهد البعيدة عن وسائل الإعلام، يشترك فيه زخم من الخبراء من الطرفين مع فاعلين إضافيين، ولا شك أن الرئيس الأميركي الذي وجه دعوة لكيم لزيارة واشنطن، سيضع الملف على طاولته في البيت الأبيض ويعمل على تحقيق اختراقات فاعلة مع كوريا الشمالية لأنه بذلك يبعث برسالة إلى الحلفاء والخصوم في الداخل الأميركي والخارج، مضمونها أنه قادر على اختراق جدران المستحيل بما يحقق شعاره الانتخابي وهو أميركا أولاً.. مضافاً إليها وأخيراً.