رشيد الخيُّون يكتب:

العراق.. بين نظامين

يخرج قارئ كتاب عباس العزاوي (ت1971) «تاريخ العراق بين احتلالين» (المغولي والعثماني)، وما بينهما مِن احتلالات ودويلات، بالعبرة: إن الاحتلالين لا يختلفان إلا بالأسماء والألقاب، أما أسلوب الحُكم فواحد، لا تمييز بينها، فالمغول اجتاحوا بغداد وسلموا السُّلطة لرؤسائها السابقين، من الوزارة والقضاء، بعد أن تركها هولاكو (ت664هـ)، إلا أن هؤلاء الموظفين، في النِّظام الجديد، أخذوا يسبون الخلافة العباسية، ويتنغمون بمديح الحاكم الجديد، وهكذا الحال مع العثمانيين.

نجد عند محمد بن علي بن الطَّقطقي الموصلي (ت708هـ)، وقد عاش فترة الانتقال مِن العباسيين إلى الإيلخانيين، ما يؤكد أن ما بين العهود السَّياسية خيطاً دقيقاً، يكاد لا يُرى بالعين المجردة، الفارق باختلاف الأزياء وما تقتضيه المصلحة الخاصة لا العامة.


عطفاً على حاضرنا، مَن يُراقب ما حصل في لحظة الانتقال مِن النِّظام العراقي السَّابق إلى الحاضر سيجد الأدوات نفسها، والأسلوب الحزبي واحداً، ولم يحصل مِن تغيير سوى أن المعارضة أصبحت سلطةً، هتكت البلاد وأذلت العباد، ناسيةً كلَ شعاراتها، مهمتها كيف تحصل على المكاسب الحزبية والأُسرية، واضعةً أمامها العبارة، التي اشتهرت عن رئيس وزرائهم: «بعد ما ننطيها (نعطيها)».

كتب ابن الطَّقطقي سامعاً من نصر المليسيّ أحد خُدام هولاكو، وكان في جملة خدم الخليفة المستعصم بالله (قُتل656هـ): «فلما بَعُدنا عن بغداد أحضرَنا السُّلطان هولاكو يوماً بين يديه، وكان علينا زِيّ دار الخلافة، فقال: أنتم كنتم قبل هذا للخليفة، وأنتم اليوم لي، فينبغي أنكم تخدمون خدمةً جيدة بنصيحةٍ، وتُزيلون مِن قلوبكم اسمَ الخليفة، فذاك شيء كان ومضى، وإن آثرتم تغيير هذا الزِيّ والدُّخول في زِيّنا كان أصلح. قال: فقلنا السَّمع والطَّاعة، ثم غيرنا زِينا ودخلنا زِيّهم» (الفخري في الآداب السُّلطانية والدُّول الإسلامية).

قرأت هذه العبارة ووجوه المتحولين، مِن دولة البعثيين إلى دولة الإسلاميين، أمامي، وجهاً وجهاً، بدلوا الأزياء وأغطية الرؤوس إلى عمائم، وكنياتهم إلى الحسن والحُسين، وتجمعاتهم مِن مسيرات تأسيس حزب البعث (1947)، إلى مواكب عاشوراء واحتفالات تأسيس حزب الدعوة (1959)، وهم صاروا الأكثر حرصاً على قانون «اجتثاث البعث»، يكتبون التقارير على رفاقهم السابقين، لكن هذه المرة بحس الطَّائفة والمذهب، لا الحزب والقومية.

عندما دخلت الأحزاب الإسلامية، بعد الغزو الأميركي لبغداد، كانت أعداد أقدمها لا تتجاوز المئة والمئتين، وبعد تسلم الوزارات والبنوك، المال والسُّلطة، تكاثروا لمئات الآلاف، ولم يتغير في النَّهج شيء، فالتَّعيين ظل على أساس الحزب، بل زُيد عليه الانتماء الطائفي. غير أن الانتقال تم بالسلب لا بالإيجاب، فإذا كان احتكار السلطة لحزب واحد، لم يدعِ الدَّيمقراطية وتبادل السلطة، صار لأحزاب منافقة بادعاء الدِّيمقراطية وهي أكثر ديكتاتورية مِن سلفها، لأنه مارسها باسمه وهؤلاء يمارسونها بعشرات المقدسات، وإذا كان النفوذ محصوراً لأُسرة واحدة، صار النفوذ لمجموعة أُسر، ولكلِّ أُسرة حصتها مِن الغنيمة، هذه على البنوك وتلك على النِّفط، ناهيك عن توزيع النُّفوذ على أساس المرجعيات الدِّينية.

تبدلت الأزياء والألقاب أيضاً، فمحل لقب «الرَّفيق» و«المناضل» حل لقب «السَّيد» و«العلوية»، و«المجاهد»، و«خادم الحسين»، و«وكيل المرجع». أُنزلت صور شخص لتُرفع صور عشرات الأشخاص مِن أصحاب العمائم، واستُبدلت أسماء الجامعات والمستشفيات والمدن بالأسماء (المقدسة)، وإذا كان المسؤولون السابقون لا يجرأون على مد اليد إلى المال العام، صار في ظل اللاحقين نهباً، حتى أن عراقيين يتندرون على المسؤولين عندما يذهبون إلى العمل: «ذاهبين للنهب»، مثلما يُقال ذهب فلان للصيد.

إذا كان الحزب السَّابق حصر المناصب الأمنية وأجهزتها برفاقه، فرؤساء الأمن في عصر الإسلاميين مِن الإسلاميين وأقاربهم، غير أن الأحوال بوجودهم سارت إلى النكوص، لذا يحق إنشاد بيت عطاء السَّندي (ت بعد158هـ): «يا ليت جور بني مروان عاد لنَّا/وأن عدلَ بني العباس في النَّار»(ابن قُتيبة، الشُّعر والشُّعراء). لم يختلف الأمر في شأن الثَّقافة والتَّعليم، فالفضائية العراقية كانت تُثقف بمبادئ الحزب؛ تحولت منصاتها إلى التَّثقيف بـ«الحاكمية» و«الولاية»، فلكل ميليشيا فضائيتها وصحيفتها مِن مال الدَّولة، يطل منها المعممون يبشرون بالحكم الدِّيني كأمر إلهي.

ليس مِن جديد غير شدة الخطورة، فالبعث لم يدعِ الديمقراطية والقدسية، أما بديله فيدعيهما معاً، والأخطر كان السابقون عراقيين، بغض النَّظر عن موقفنا منهم، لكن اللاحقين أخذوا يتنافسون على رفع صور زعماء أجانب في قلب بغداد، وأن مَن صار وزير خارجية يُدافع عنها، ويتضامن مع تظاهرات بالبحرين ويُغلس عن قتلى تظاهرات بلاده.

عندما يتقدم حزب رئيس الوزراء على لسان رفيقه الحزبي المعمم مؤكداً أن نظامهم تفرضه على العِراق الآية: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(المائدة:44)؟! بهذا المنطق يُحقّ لخطيب حزب رئاسة الوزراء تأويل قتل الشَّباب المتظاهرين، برصاص الإسلاميين، على أنهم «الكافرون»؟! هذا وضع قدر العراق بين نظامين متداخلين، بينهما الماضي انتهى والحاضر مدلهم والقادم غامض.

*نقلا عن الإتحاد