فاروق يوسف يكتب:

ثورة العراقيين ضد القبح

مرثيات أور السومرية لا يمكن غض الطرف عنها فهي من الروائع الأدبية التي تؤرخ لصلة الإنسان بالمكان الذي هو الوطن بالمفهوم الحديث. كتب بناة أولى الحضارات أشعارا في رثاء مدينتهم. لا يتعلق الامر بالسومريين الذين لا يعرف أحد مصيرهم بعد أن تعرضت العاصمة الرئيسة لبلادهم للخراب، بل يتعلق بالمدينة التي لا يزال ذكرها يهز وتر العاطفة الإنسانية.

ما من أثر عملاق في أور سوى زقورتها. غير أن عددا لا يحصى من الدمى والأختام والألواح يمكن أن يٌشكل سندا حقيقيا لوعي الإنسان الحضاري المبكر الذي هو خلاصة للإبداع البشري في مجالات العلم والاقتصاد والجمال والقانون والفنون والآداب في فجر التاريخ.

كان العراق مهدا لولادة اولى المدن وكان ناسه جماليين بطريقة أخاذة في رثاء تلك المدن العظيمة. 

وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث فإن الولايات العثمانية الثلاث، البصرة وبغداد والموصل، كانت الاثافي التي وضع عليها القدر العراقي الساخن بعد الاحتلال البريطاني. يومها تشكل العراق بصيغته الحالية.

لم يكن العراق السياسي ممكنا من غير تلك المدن الثلاثة اللواتي يمثلن حضور أرض العراق في التاريخ. عواصم ثلاث لثقافة خلاقة ومبدعة انتشرت في مختلف أنحاء العالم العربي حاملة اسم العراق.

قبل السياسة كانت حدود العراق مرسومة ثقافيا. 

كان لكل واحدة من تلك المدن وقعها وتأثيرها الثقافي المختلف في ظل عصور ذهبية، لم يبق من لمعانها شيء بسبب ما تعرض له العراق من غزوات وحشية. كل واحدة من تلك الغزوات كانت تعيده إلى درجة الصفر الحضاري. كانت الغزوة الأميركية آخرها. من خلالها حقق جورج بوش الابن عام 2003 ما وعد به أبوه عام 1990 حين هدد بإعادة العراق إلى العصور الحجرية. وهو ما حدث فعلا.

لم يكتف الأميركان بذلك بل حرصوا على أن يستعينوا بوكلاء عراقيين، تكون مهمتهم تكريس الخراب وتعميق هاويته، بما لا يسمح بإمكانية أن تستعيد مدن العراق الثلاث شيئا من حقيقتها.

ما شهدته تلك المدن عبر الخمس عشرة سنة الماضية يؤكد أن الأميركان كانوا دقيقين في اختياراتهم. لقد كشف وكلاؤهم الذين استلموا الحكم عن عمق وقوة وخبث كراهيتهم لفكرة المدينة. لا لأنهم ريفيين بل لأنهم يحقدون على التاريخ العربي الذي كانت مدن العراق الثلاث واحدة من أعظم ثماره وهي المدن التي وضعها القدر الأميركي في قبضتهم التي لا تعرف الرحمة.

وإذا ما كانت الأحزاب الحاكمة في العراق ملتزمة بالسياق الديني الذي يرفض مفهوم الوطن فإنها في الوقت نفسه تحتكم في طريقة نظرها إلى مدن العراق بالمزاج التاريخي الإيراني الذي عكره في أوقات سابقة صعود نجم تلك المدن باعتبارها حواضر عربية ـــ إسلامية.

إنهم لا يعترفون بالعراق من منطلق ديني مزيف وهم يكرهون مدنه تعبيرا عن ولائهم لسادتهم في طهران الذين يعتبرونها ساحات حرب.

لذلك فقد تحولت بغداد إلى واحدة من أقبح العواصم في العالم. تكفي نظرة سريعة على شارع الرشيد وهو قلب بغداد لكي يتأكد المرء من أن عاصمة الرشيد صارت عبارة عن مكب للنفايات.

اما الموصل وهي مدينة "أبو تمام" فقد حولتها سياسات نوري المالكي التي جذبت التنظيم الإرهابي "داعش" إلى مقبرة، دُفن فيها الأحياء تحت سقوف بيوتهم.

ثالثة الأثافي هي البصرة، خزان اللغة والشعر التي حول نهرها العظيم "شط العرب" إلى مصب لنفايات المصانع الإيرانية فصارت عنوانا للتلوث البيئي الذي سلمها إلى التسمم الذي شمل الأجساد والأرواح معا.

في الماضي كان خراب البصرة مثلا على الألسن. اليوم صار واقعا تراه العين ولا تدمع، خوفا من أن تسقط دموعها ممتلئة ملحا.

لذلك يمكن القول أن الثورة التي تشهدها البصرة اليوم ليست ثورة جياع عاطلين عن العمل، بل التعبير الأصيل عن رفض القبح.

إنها ثورة أبناء المدن الخالدة الذين استيقظوا بعد نوم طويل من الأوهام ودعايات التضليل على مدينة لم تعد تشبههم. مدينة انفصلت عن تاريخها العربي لتكون مجرد سوق للفرس.

تلك ثورة ستعيد إلى المدن العراقية جمالها. على الأقل على مستوى ما كشفته من ميل عميق لدى العراقي إلى الحرية.