فاروق يوسف يكتب:
سياسيو بغداد ودرس البصرة
أحرق العراقيون مبني القنصلية الإيرانية في البصرة. ذلك حدث طليعي من جهة ما ينطوي عليه من رفض علني وقوي وصادم للهيمنة الإيرانية.
هذه هي المرة الأولى التي يتوجه فيها العراقيون إلى رمز من رموز الاحتلال الإيراني حسب تسميتهم ويتمكنوا من تحويله إلى شعلة من لهب.
حديث سياسيي بغداد عن وجوب احترام البعثات الدبلوماسية هو محض هراء ونفاق وتزوير للحقيقة، وهو تعبير عن مداهنة، تنطوي على الكثير من التبعية التي تنطوي هي الأخرى على الكثير من الذل والخنوع والخدمة مدفوعة الثمن وعدم احترام الشعب.
إيران ليست سبب خراب العراق في حاضره. هذا صحيح. غير أن الصحيح أيضا أن ذلك الخراب ما كان ممكنا لولا أدوات إيران التي سخرت كل شيء في العراق لخدمة دولة الولي الفقيه بعد أن الحقت ثقافته ومجتمعه واقتصاده ومصادر رزقة بدولة لا تخفي كراهيتها لكل ما هو عربي.
ما كان للمشروع الأميركي الذي بدأ بالغزو القبيح أن يصل إلى غاياته في التدمير الشامل لولا إيران وأذرعها في العراق، وهي أذرع لا تعمل في الخفاء، بل قٌدر لها بإلهام أميركي أن تستولي على ثروات العراق وتستعملها في تسديد دينها لإيران. وهو دين يستغرق سداده زمنا طويل قد يمتد إلى يوم يقوم المهدي المنتظر من غيبته، إي إلى يوم القيامة المفترض دينياً.
لذلك فإن ما فعله العراقيون حين أحرقوا القنصلية الإيرانية في البصرة انما هو مؤشر يمكن الاهتداء من خلاله إلى حقيقة ما يفكرون فيه وطنيا وإنسانياً ً وحقيقة موقفهم من إيران وأذرعها في العراق.
لقد مرت خمس عشرة سنة، خُيل لمتعهدي المزاد الإيراني في العراق أن كل شيء صار تحت السيطرة. غير أن الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة كشفت عن أن الإيرانيين ووكلاءهم قد أخطأوا التقدير.
هناك شعب لا يرغب في أن يستظل براية الجمهورية الإسلامية في إيران. لا أحد من العراقيين الأصلاء يرغب في أن يكون تابعا للولي الفقيه.
وإذا ما كانت إيران قد حملت الحكومة العراقية مسؤولية ما جرى لقنصليتها في البصرة فإن ذلك العتب هو نوع من اللعب المخادع على الحقيقة.
ما حدث في البصرة كان صادما لحكومة بغداد مثلما كان صادما لحكومة طهران. وهو حدث عراقي خالص.
لقد عبر العراقيون عن اراداتهم المستقلة.
ذلك حدث استثنائي ستكون له انعكاساته على مستقبل العراق.
فبغض النظر عما يمكن أن تؤول إليه الاحتجاجات لا يمكن لإيران أن تعود إلى سيرتها الأولى في التمدد بخفة ومن غير حذر. كما أن ممثليها في العراق سيحتاطون كثيرا في مواجهة الشعب الذي تبين لهم أن أكاذيبهم لم تنطل عليه، سيكون عليهم أن يحصنوا أنفسهم ويستعدوا لنزالات جديدة، سيكون هدفها دائما إسقاطهم وإزالة ممالكهم.
كان وضع مصير العراقيين في قبضة الجمهورية الإسلامية هو بمثابة خدمة جهادية يقوم بها أعضاء الأحزاب الدينية الحاكمة في بغداد وهي خدمة حولت العراق إلى واحد من أكبر بؤر الفساد عبر التاريخ.
بعد احراق القنصلية الإيرانية وهو حدث مفصلي في تاريخ العلاقة بين جارين لم يجمع بينهما ود عبر التاريخ، فإن الاستمرار في تلك الخدمة الجهادية لا يعني لمَن يقوم بها سوى الانتحار.
ليس المقصود هنا هو الانتحار السياسي، فسياسيو العراق لا يمتون بصلة إلى عالم السياسة، بل هو انتحار اقتصادي. ذلك لأن الاستمرار في الحكم من خلال ممارسة المزيد من الاعيب التضليل والخداع والمزايدات ورفع الشعارات الزائفة يمكنه أن يبقي نهر المال متدفقا في خزائنهم.
غير أن التخلي عن إيران لن يكون ميسرا بالنسبة للكثيرين ممن ينعمون بما تدره عليهم صفقات الفساد من ثروات في بغداد. لا لأنهم مؤمنون بولاية الفقيه وسبق لمعظمهم أن خدم في صفوف الحرس الثوري الإيراني حسب، بل وأيضاً لأن جزءا عظيما من أموالهم كان في أوقات سابقة قد تبارك بالتومان الإيراني الذي صار مصيره اليوم في مهب الريح.
لا أعتقد أن أتباع إيران في العراق سيتمكنون من فهم درس البصرة.
بلاغة ذلك الدرس هي أكبر من قدرتهم الواقعية على الاستيعاب.