فاروق يوسف يكتب:
ما الذي يجري في العراق؟
ليس في العراق ما يدعو إلى الاطمئنان إلى مصيره. على السطح هناك دولة فاشلة لا تقوى على القيام بوظيفتها في تصريف شؤون مواطنيها بطريقة عادلة، وتحت السطح هناك أحزاب دأبت منذ خمس عشرة سنة على رعاية مصالحها بعد أن أتيحت لها فرصة السيطرة بشكل مطلق على ثروات البلد لتعتبرها بمثابة تعويضات عن سنوات الإقصاء من السلطة.
لقد علا منسوب الفساد ليرافقه انخفاض لافت في مستوى الخدمات التي صارت تلتهم ما تبقى من البنية التحتية المهدمة حتى وصلا بها إلى مرحلة الاندثار النهائي، فظهرت الفضيحة جلية من خلال ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وانقطاع التيار الكهربائي وتدهور الأوضاع الصحية وانهيار نظام التعليم والعجز عن توفير المياه الصالحة للشرب.
لم تقع تلك الكوارث مجتمعة إلا بسبب الغياب الكلي لمشاريع التنمية. إذ اعتمدت الدولة الجديدة التي اخترعها المحتل الأميركي بما يناسبه من مقاسات على ما ورثته من الدولة التي تم إسقاطها من إنجازات على مستوى البنية التحتية ولم تهتمّ بتحديث تلك البنية، بما يحفظ قدرتها على تلبية حاجات المجتمع الذي لم يكن متطلبا ولا استهلاكيا.
كان الإجهاز على البنية التحتية في بلد مرت عليه حروب عديدة متوقعا، وهو ما لم تنظر إليه الأحزاب الحاكمة في العراق بطريقة جادة، ولم تكن ترى في عواقبه ما يمكن أن يشكل خطرا على استمرار وجودها في السلطة. فهي مطمئنة إلى أن ذلك الوجود مكفول من قبل الولايات المتحدة التي لم تظهر استياءها من قبل في وجه الحماية الإيرانية التي تمتعت بها تلك الأحزاب التي أعفت نفسها من المساءلة القانونية.
لقد تصور رعاة الفساد أن انهيار البنية التحتية لا يمكن أن يهدد دولتهم الفاشلة بالانهيار. وهو تصوّر لم يكن في محله. فبقدر ما يكشف ذلك التصوّر عن سذاجة سياسية، فإنه يؤكد تمكّن الطمع من أولئك الفاسدين بما أصابهم بالعمى الذي حال بينهم وبين رؤية الشعب بحجمه الحقيقي. كان الشعب بالنسبة لهم مجرد حشود قطيعية يمشون بها في المسيرات الجنائزية التي صارت بمثابة مواعيد لإذكاء نار الفتنة الطائفية.
الشعب الذي قال كلمته من خلال حرق القنصلية الإيرانية بعلمها سيكون قادرا على نسف العملية السياسية التي يستظل بها الفاسدون الذين اكتشفوا مضطرين أن الخطوط الحمراء التي رسموها من أجل بقائهم في السلطة قد تمّ تجاوزها من قبل الشعب
لذلك لم تقدّر الأحزاب الحاكمة في بغداد ما تنطوي عليه احتجاجات البصرة من أخطار على وجودها في السلطة إلا بعد أن تمّ حرق القنصلية الإيرانية. وهو حدث مفصلي لا على مستوى تعبير الشعب العراقي عن رفضه للهيمنة الإيرانية فحسب، بل أيضا على مستوى قطيعته مع إملاءات الأحزاب الحاكمة التي سخرت الطقوس الدينية في خدمة مشاريعها المناهضة لكل مقومات الحياة.
كان حرق القنصلية الإيرانية بمثابة صفعة وجهها شباب البصرة للطبقة السياسية في بغداد التي كانت منغمسة في إعادة توزيع الحصص بين أفرادها، تمهيدا للاستمرار في حكم العراق لأربع سنوات قادمة، ستكون حاضنة لأنواع جديدة من الفساد.
لقد أربك الشباب المحتجون المعادلة التي كانت قائمة على طرفين يغذي أحدهما الآخر بأسباب بقائه. دولة فاشلة لا شأن لها بوظيفتها في خدمة مواطنيها من جهة. ومن جهة أخرى أحزاب متنفذة، صارت على خبرة بطرق ووسائل نهب ثروات العراق، بما لا يسمح بخروج دولار أميركي واحد إلى مناطق لا تقع تحت نفوذها.
تلك المعادلة صارت جزءا من الماضي. فالشعب الذي قال كلمته من خلال حرق القنصلية الإيرانية بعلمها سيكون قادرا على نسف العملية السياسية التي يستظل بها الفاسدون الذين اكتشفوا مضطرين أن الخطوط الحمراء التي رسموها من أجل بقائهم في السلطة قد تمّ تجاوزها من قبل الشعب.
ما يجري في العراق هو انعكاس للخلخلة التي أحدثتها احتجاجات الشباب في البصرة. كانت الضربة قوية بما أدّت إلى أن يتخلى البعض عمن كان يعتبره سندا له في مستقبله. صار كل فريق يفكر في نجاته بعيدا عن الأطراف الأخرى. لذلك انتهت العملية السياسية إلى طريق مسدود.