فاروق يوسف يكتب:

لعنة الطبقة الحاكمة

هناك دول عربية أصيبت بما يمكن أن يُسمى بـ”لعنة الطبقة الحاكمة”. وإذا ما عرفنا أن تلك الدول تقوم فيها الحياة السياسية على أساس ديمقراطي، فسيكون علينا أن نتوقع أن تلك اللعنة ستبقى قائمة تتوارثها الأجيال، من غير أن يكون هناك أمل في التخلص منها.

كان علي أن أضع مصطلح الديمقراطية بين قوسين، ما دامت نتائج تلك العملية لا تخرج من دائرة الإرث الحزبي والعائلي التي مهما اتسعت فإنها تظل محصورة في نطاق ضيق، عنوانه الحزب أو العائلة. وهو نفوذ مكتسب من خبرة في إدارة الأزمات والمؤامرات والصفقات السرية والفساد الذي غمر المجتمعات العربية بأبخرته.

هناك خبرة في قلب المفاهيم السياسية الحديثة من خلال قولبتها بما يقود إلى ضدها. تلك الخبرة أمسكت بالديمقراطية من قرنيها لتقودها إلى حظيرة الطائفية والقبلية والعائلية، وتدجنها وتدجن من خلالها الدولة والحكومة والنظام السياسي، ومن خلالهم الشعب الذي انتقل من موقع مصدر السلطات إلى مجرد شاهد، يمكنه أن ينتحل البراءة لنفسه من غير أن يكون متأكدا من أنه لم يرتكب أخطاء تاريخية قادته إلى ذلك الفخ.

لعنة الطبقة الحاكمة تبرز في لبنان أكثر من سواه من الدول العربية.

ولكن تلك اللعنة صارت لازمة عيش في العراق وفي تونس بطريقتين مختلفتين. ففي العراق يبدو استنساخ التجربة اللبنانية لافتا وقويا، وفي تونس تغطي أزمة الحكم على الأسباب الحقيقية للإخفاقات التي تواجهها الحكومات المتتالية، حيث امتزج العائلي بالحزبي لينتج صراعا لا علاقة له ببرامج الحكومة أو سياساتها الخدمية.

المفارقة في ظل استفحال تلك اللعنة أن الشعب أثبت أن في إمكانه أن يمارس حياته الطبيعية من غير الالتفات إلى ما يجري في المناطق التي صارت بمثابة مسرح لصراع، لو توفرت له مقومات وشروط الحياة السياسية السابقة لانتهى بانقلاب وبيان رقم واحد ومجلس لقيادة الثورة. غير أن الزمن تغير. ولأن عصر الانقلابات انتهى فقد صار لزاما على الإخوة الأعداء أن يتعايشوا في ما بينهم تحت سقف واحد وكل واحد منهم يخطط لتدمير الآخر في الوقت نفسه، لا لأسباب سياسية بل بسبب تصادم المصالح.

اللبنانيون برهنوا أن بإمكانهم الاستغناء عن سياسييهم واعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي وكانت الحياة تمر بطريقة سلسة. جربوا أن يكونوا من غير رئيس جمهورية. جربوا أن يكون مجلس النواب عاطلا عن العمل، وجربوا حكومات لتصريف الأعمال تحول وزراءها إلى ضيوف شرف. في كل تلك التجارب لم يقع شيء جلل، بل مرت الحياة من غير كلام فائض عن الحاجة.

العراقيون والتونسيون يضعون رؤوسهم على الوسائد اليوم ليستعيدوا وقائع الفيلم اللبناني الذي انتهى بكارثة حزب الله. وهو ما يجب عليهم أن يحذروه. ذلك لأن لعنة الطبقة الحاكمة في لبنان هي التي أنتجت هيمنة حزب الله على الحياة السياسية، بكل ما تنطوي عليه تلك الهيمنة من خضوع لإملاءات دولة أجنبية هي إيران.

الاحتكار هو أخطر ظاهرة يمكن أن تتعرض لها الحياة السياسية. فهي تنشئ طبقة طفيلية لا هم لها سوى أن تتمتع بامتيازات السلطة، من غير أن تخضع لمبدأ المساءلة القانونية الذي يجب أن تمارسه سلطة قضاء مستقلة. لقد احتكرت الطبقات السياسية الحاكمة السلطات كلها، فلم تعد في حاجة إلى مَن يرشدها. ولهذا يمكن القول إن العالم العربي صار مزرعة للطغاة الصغار.

لا أعتقد أن أولئك الطغاة يفكرون في التاريخ. إنه شيء أكبر منهم. غير أنهم ينتشون بفكرة أن يكون الشعب قد تخلى عن مسؤوليته في صناعة التاريخ. وهو ما يدفع بالأمور إلى مزيد من التدهور. ما يجب أن يعرفه التونسيون والعراقيون أن اللبنانيين ليسوا سعداء بما جرى لهم. لقد قهرتهم الطبقة السياسية وحولتهم إلى كائنات مذعورة تعمل على استرضاء تلك الطبقة من أجل أن يكون العيش ممكنا.