يوسف الحسن يكتب لـ(اليوم الثامن):
فى انتظار «غودو»
أمضيت أكثر من ثلاثة عقود، منشغلا فى بحث الأساطير «الإسرائيلية»، والمفاهيم الصهيونية لما يسمى بالحقوق التاريخية لليهود فى فلسطين. فضلا عن دراسة موروثات تاريخية ملتبسة، فى العهدين القديم (التوراة) و(الجديد)، حول جغرافية بعض الأنبياء. والحركة الأمريكية الأصولية الإنجيلية اليمينية، صاحبة ومؤسسة شعار «فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، والمؤمنة بضرورة العمل على إعادة اليهود إلى فلسطين والقدس بالذات، تمهيدا لـ«العودة الثانية للمسيح» عليه السلام.
أسئلة الأساطير «الإسرائيلية»، ظلت مفتوحة عبر الحقب، وتعاقب الكوارث على فلسطين وما حولها من جغرافيا، وضعف الاستجابة العربية غير الفاعلة لها. واستفحال السجال عن عدد «الملائكة أو الشياطين على رأس دبوس فلسطينى»، فى وقت تتسرب فيه الأرض الفلسطينية، وقدسها، من أيادينا جهارا نهارا، بالاستيلاء والعزل والتهويد والقضم والإحلال، وتغيير مرجعيات القرارات الأممية، واعتماد لعبة ملتبسة اسمها «عملية السلام»، ولا تعنى إلا أنها مسيرة مفتوحة بلا نهاية، وبلا بوصلة، بئر بلا قاع.
نخطئ اليوم ــ وبعد أكثر من سبعين عاما على إقامة «إسرائيل» ــ حينما نستحضر إعلاميا، وسياسيا، أطروحات سطح المشهد، من توراة أو أسفار موسى، أو من كتبها، أو حتى ماذا كان اسم فلسطين فى التوراة (أرض كنعان)، أو عن جماعات يهودية عاشت هنا أو هناك، فى يثرِب أو هرمز أو الكويت، واليمن، وجنوب العراق أو حتى فى البحرين، ومسقط ومطرح وصحار كما يقول الرحالة والمؤرخون من أمثال الدنماركى (نيبور)، و(باكنجهام).. إن هذا الاستحضار يضاعف إرباك الناس، ويؤدى إلى تعثر القراءة الموضوعية للمشروع الصهيونى الاستيطانى التوسعى، فى هذا الزمن العربى المضطرب، وإلى مزيد من الإحباطات، التى ترسخ الاستسلام للظلم، وتزيد حدة مشاعر اليأس، وتقدم هدية ثمينة لكل قوى التشدد والغُلو والعنف، ولقوى إقليمية تنتظر المزيد من الانهيارات فى الجسم العربى المثخن بالجراح.
فى عمق المشهد، هى قضية وطن محتل، وحقوق بشر، فى مواجهة ظلم وقتل وتشريد، وانتهاك لحقوق وحريات ومصير ملايين من العرب، وهى قضية سطو وطمس للهوية، واختلاق تاريخ، واستبدال سكان بسكان آخرين، وطرد جماعى وتطهير عرقى، وطاوس نووى أوحد فى الشرق الأوسط، ومكر غير مسبوق، وغطرسة فائضة، وتجاهل للقانون الدولى وللقرارات الأممية، وحضور فج لعقلية (الجيتو)، المسكونة دوما، بالخوف وتهجس بالأمن والتوسع، وتغامر فى وضع الجماعات اليهودية فى عداء مستمر مع العالم العربى فى المستقبل، وترفض الاندماج فى المجتمعات، وتملك المهارة الفائقة فى ابتزاز الآخر، وعقد الصفقات الملتبسة. واللعب فى الفراغات، واستثمار عقدة الاضطهاد، والضهور دوما بلباس الضحية، لكن الضحية القوية فى آن.
وفى المقابل، ومن سوء الطالع، أن القضية الفلسطينية، تعيش مأزقا خطيرا فى الوقت الراهن، وشواهده كثيرة؛ وعلى رأسها، أزمة نظام سياسى فلسطينى مرتبك ومقسم، ولا يملك رؤية متماسكة، ونخب سياسية تيبَّست، وفقدت صلاحيتها، وغابت عنها الرؤية، واستوطنتها خيارات تراوح ما بين السيئ والأسوأ، وصار حالها يشبه إلى حد كبير، حالة المراوحة أو الحوار الدائرى الذى لا ينتهى، فى مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة (فى انتظار غودو)، والتى كتبت قبل أكثر من ثمانين عاما، حالة الانتظار الدائم، لوقوع حدث لا يُعرف، بحيث يستمر أبطال المسرحية فى النقاش والحوار، والألعاب البعيدة عن المجرى الرئيسى للأحداث. ومن بين هذه الألعاب، لعبة المفاوضات الراقصة، التى يظن كثيرون أنها ستغير موازين القوى، وفى الوقت نفسه، هناك انحلال عربى شبه شامل، وغرق فى رمال حروب وإرهاب عابر للحدود، ومنظمة إقليمية مشلولة، وارتفاع متسارع فى منسوب صعود يمين فاشى فى العالم، يملأ الفضاء الدولى بالكوابيس، فى الاقتصاد والسياسة والعسكرة والتقانة المنفلتة من عقالها الإنسانى، ومخاطر البيئة والإرهاب والحروب الساخنة.
لا أدرى لماذا تذكرت، فى هذه الأيام، المرحوم كلوفيس مقصود، حينما كتب مقالا فى جريدة الحياة اللندنية، عشية انعقاد قمة (عرفات ورابين وكلينتون) فى سبتمبر 1993. وبحضور عدد من وزراء الخارجية العرب، الذين كانوا فى ذلك الوقت يشاركون فى افتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان عنوان المقال؛ «إلى الضيوف العرب؛ إذا كان لا بد من صورة مع رابين، فعلى الأقل تجنبوا الابتسامة».