كرم نعمة يكتب:

صحافة شغوفة بمصافحة متوترة

كان المشهد سياسيا حاشدا، فالأنظار كلها تتجه إلى أحداث تصنعها التصريحات والمواقف، وبينما قادة العالم يتواجدون في باريس بمراسم الاحتفال بمرور مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى. كان ثمة حدث مختلف تصنعه وسائل الإعلام.

لقد اكتشفت محطات تلفزيونية كبرى ليلتها، وعناوين صحف في اليوم التالي أن القصة ليست في استذكار حدث مرتّ عليه مئة عام! بل في مصافحة متوترة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يدير تلفزيون الواقع العالمي، وبين إيمانويل ماكرون رئيس فرنسي طموح بإعادة أوروبا إلى أوروبا.

كان الخبر الأول هذا الأسبوع المصافحة المتوترة التي لم تكتمل بشروطها الدبلوماسية، فلم تكن هناك مصافحة في حقيقة الأمر بين ترامب وماكرون، بل كانت علامات تذمّر واضحة تبرقها عينا ترامب وهو في أروقة قصر الإليزيه الرئاسي. أو بتعبير موقع “بيزنس إنسايدر” مصافحة غريبة في إشاراتها الاستراتيجية.

لقد صنعت وسائل الإعلام دلالة من كفّي الرئيسين المضغوطتين في تعبير عن الخلاف. الأمر الذي يفسر معركة التغريدات التي شنها ترامب بعد عودته إلى بلاده. ثم رد المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنجامين غريفو، مطالبا ترامب إبداء قدر من اللباقة.

الجملة التاريخية تقول “مصافحة العدو قبل شجاعة الشجعان” في تعبير عن الفروسية الشماء وليس الوهن، إلا أن هذا التعبير تحول في العصر الرقمي لترامب إلى تهكم على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وظفه الرئيس الأميركي في تغريدات سريعة ومؤثرة يتداولها الملايين بعد ثوان من إطلاقها، تليها مواقف صلدة أمام العدسات لا تنتهي بمصافحة ودودة.

مثل هذا الأمر الملفت لا تغفله وسائل الإعلام لاعتبارات سياسية. ولأن المصافحة تعبير عن سياسة الجسد وفق علم تحليل الإشارات، إلا أنها تأخذ دلالة مختلفة عندما يتعلق الأمر بترامب الشهير بالمصافحات العدوانية.

علينا أن نتذكر ماذا فعل مع ماكرون عند استقباله في البيت الأبيض قبل بضعة أشهر، لم يتردد عن نفض قشرة شعر الرأس عن بدلة الرئيس الفرنسي، ليظهره أكثر أناقة، كما زعم! بقوله “لدينا علاقة مميزة لذا سأنفض هذه القشرة القليلة، يجب أن نجعله متقن المظهر. وهو كذلك”.

مصور وكالة رويترز كارلوس باريا التقط صورة مقربة لكفي الرئيسين وكأنهما في حالة صراع، وبدت كف ماكرون ضاغطة بشدة بينما ترامب يحاول سحب يده.

كانت قصة تلفزيونية بامتياز استبقت بها المحطات الإخبارية تغطيتها لتجمع زعماء العالم في استذكار حرب انتهت قبل مئة عام

واستذكرت صحيفة الغارديان البريطانية مصافحة سابقة بين الزعيمين بوصفها “معركة مصافحة متوترة”، بينما رأت صحيفة دير شبيغل الألمانية أن ماكرون ظهر أكثر ثباتا في لقاء ترامب فيما يكاد يصل إلى نصف عمره!

ووصل الحال بصحيفة ديلي ميل البريطانية إلى استخدام تعبير “الملحمة” عن مصافحة تكشف الخلاف العميق بين أوروبا والولايات المتحدة.

وبدت صحيفة “صن” الشعبية البريطانية أكثر كياسة ليست كعادتها في التقاط الهفوات السياسية والشخصية، عندما وصفت المصافحة بالسلوك الغريب.

يدفع اليمينيون الأوربيون باتجاه أن تكون بريطانيا وفرنسا جزءا اعتباريا من الولايات المتحدة في تهكّم على التاريخ وتجاوز متشدد للجغرافيا السياسية، إلا أن صحيفة “دي فيلت” الألمانية استغلت المصافحة المتوترة لتقول إن الرئيس الفرنسي سحق يد نظيره الأميركي.

لا يكفي توزيع الابتسامات على عدسات المصورين، فالابتسامة تعبير يأتي في هامش كتاب قراءة الإشارات للصحافيين، لذلك لم تكن لا ابتسامة ترامب المتهكمة ولا ابتسامة ماكرون المجاملة، كافية لإبطال توتر المصافحة.

كان ثمة مشهد آخر لم يفت العدسات، عندما تظاهر ترامب بعدم الانتباه ليد ماكرون ممتدة إليه، ورفع كفه المضمومة بخنصر منتصر لتحية المحتشدين أمام الإليزيه، بينما لم يجد ماكرون بدا وهو يربت على معصم ترامب بعدما فشل في الحصول على مصافحته. هذا يفسر لنا شعور ترامب حيال ماكرون الذي يحمل وجهة نظر سياسية تجاوزت حدود بلاده، ومثل هذا الأمر يجب ألا يكون إلا عند الولايات المتحدة وحدها.

كانت قصة تلفزيونية بامتياز استبقت بها المحطات الإخبارية تغطيتها لتجمع زعماء العالم في استذكار حرب انتهت قبل مئة عام.

هل هذا يعني أن كل الأخبار السياسية باتت مكررة ومعروفة إلى حد إدراجها في الهامش، ليكون المتن الإخباري قصص المصافحات بين الزعماء والإيماءات التي يرسلها الزمن السياسي ممثلا بصليل نظرات ترامب وسيوف تغريداته.

هناك سهام سياسية لا تدعو وسائل الإعلام إلى التزام الحياد بشأنها، فالصحافة لم تعد شريكة سياسية في الزمن الرقمي وحسب، إنها مندفعة لاستعادة دورها المخطوف من جيل الهواتف الذكية، لذلك تفعل ما بوسعها لتكون ملهمة للحكومات في اتخاذ القرارات الصحيحة. الصحافة لا تملك الصبر على الانتظار حتى الأزمة التالية، فتصنع أزمة من مصافحة وتجعلها بمستوى عملية اغتيال!

لا يمثل نموذج ترامب مثالا سياسيا يعود له التاريخ كلما أراد أن يقدم عبره للناس، لكنه يكاد يكون أفضل النماذج التي تبحث عنها الصحافة لصناعة قصة تدور من دون أن تثير الملل، ترامب قصة صحافية متجددة، سواء كان بتغريداته المقتضبة أو تعليقاته الجارحة والفاقدة للكياسة أو إيماءاته المعبّرة عن الاستغراب والرفض، وأخيرا بمصافحاته المتوترة، أو المتجاهلة لأكف الزعماء الممدودة وإن كانت أمام العدسات.

علينا ألا ننسى نحن الشركاء في ترويج تلفزيون الواقع السياسي الذي ابتكره الزمن الترامبي، نستيقظ كل صباح لنتابع ما فاتنا من قصص إعفاء أو تنكيل أو وعود بالانتقام قام بها ترامب أثناء نومنا، مثل هذا الأمر مغر ومفيد لوسائل الإعلام، دعك من كلامها عن عداء ترامب للصحافة، لأنها غير قادرة على مقاطعة أخباره. لذلك استمرت قصة مصافحته المتوترة مع ماكرون على مدار أسبوع في وسائل إعلام لا تكنّ الود له.