فاروق يوسف يكتب:
حرب أوروبية ناعمة على العراق
ليس المطلوب من الاتحاد الأوروبي أن لا يدعم العراق. ليس المطلوب أن يقاطعه بسبب فساد سياسييه. فالعراق دولة مهشمة ينبغي عدم تهميشها أكثر بطريقة مذلة.
في تسعينات القرن الماضي تعرض ذلك البلد لما لم يتعرض له بلد في العصر الحديث من عمليات إذلال وتجويع وعزل وإنهاك وإفراغ، وصولا إلى احتلاله وما نتج عن ذلك الاحتلال من خلل في بناه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد العراق استقلاله وإرادته وحريته وإرثه الحضاري ودوره الإقليمي، وصار مجرد دولة فاشلة يُشار إليها نموذجا للفساد حين يستفحل، فيغدو كما لو أنه قدر لا راد له.
عراق اليوم لا عمر له. فلا هو طفل ليؤخذ بيديه حتى يكبر. ولا هو مراهق ليُنصح حتى يعي ويصبح راشدا. ولا هو شاب ليستلم زمام نفسه ويكون حريصا على ما تعلمه من خبرة، ولا هو كهل ليكون الإنصات إلى حكمته واجبا فهي ما يتبقى من إرثه.
العراق هو كل ذلك مجتمعا غير أن شرّه أكثر من خيره. هو خلاصة ما يخيف فيه ومنه. ذلك لأن ثروته جمعت الأشرار وجذبت إليه الطفيليين من شذاذ الآفاق وقطاع الطرق.
العراق الذي عبّر الاتحاد الأوروبي غير مرة عن دعمه لحكومته هو عبارة عن لغم يمكن أن ينفجر بشعبه في أية لحظة. أما كان الأوْلَى بالاتحاد الأوروبي أن يعبّر عن شعوره بالقلق إزاء ما يعيشه الشعب العراقي من محن بعد أن تم تحويله إلى ضحية مزمنة.
وكم هو مأساوي أن تقع تلك اللفتة الجارحة في سياق التعاطف الأوروبي مع إيران في مواجهة العقوبات الأميركية. فضيحة تفصح عن غياب مطلق لفحوى النظرة الإنسانية التي يجب أن تسبق أي إجراء سياسي.
فالعراق الذي يعاني شعبه من هشاشة دولته وضعف حكومته التي هيمنت عليها الميليشيات الطائفية، هو عمليا بلد محتل من قبل إيران. لذلك فإنه يحتاج إلى من يدعمه لفك ارتباطه بإيران لكي يخرج إلى العالم مستقلا بقراره السياسي، واضعا ثروته في خدمة شعبه.
العراق يحتاج إلى مَن يعينه على أن يؤكد أن حدوده الجغرافية التي تفصله عن إيران يمكن أن تنعكس بشكل إيجابي على سياسة حكومته التي ينبغي أن تكون منفصلة عن السياسة الإيرانية.
العراق الذي هدمته الحروب يحتاج إلى مَن يزوّده برؤية اقتصادية تعينه على إعمار بنيته التحتية، وتقضي على الفقر والبطالة وتساهم في إعادته إلى صف الدول التي تحارب الأمية والجهل والتخلف.
يحتاج العراق إلى مَن يوقظه من عالم الخرافة ويفتح أمامه أبواب العصر الحديث، ولا يحتاج إلى مَن يكبله أكثر بعجلة دولة الملالي، وهو المسعى الذي جاء من أجله دعم الاتحاد الأوروبي لحكومته.
لقد أفصحت تلك المبادرة المشؤومة عن أن سياسيي بروكسل لا ينظرون إلى العراق إلا من زاوية كونه البقرة التي سيعينهم حليبها على إنقاذ نظام الملالي الذي صاروا يراهنون عليه بوقاحة وصلف، بالرغم من أنهم يدركون جيدا سعة الخطر الذي صارت سياسات ذلك النظام تمثله على المنطقة بشكل عام، وعلى العراق بشكل خاص.
الأوروبيون في حقيقة موقفهم الداعم للحكومة العراقية التابعة لإيران يفضلون أن يهلك العراق ثمنا لإنقاذ إيران من العقوبات الأميركية. وهو ثمن لا ينسجم مع القيم الإنسانية التي تدافع عنها أوروبا. لقد كان حريّا بأوروبا، إن كان موقفها من الأزمة الإيرانية نابعا من الجوهر الإنساني، أن تبحث عن سبل أخرى غير التضحية بالشعب العراقي من أجل إنقاذ النظام الإيراني.
غير أنها وقد وضعت المعيار الاقتصادي أساسا لطريقة تعاملها مع المسألة، لم تجد ما يمنعها من الإشادة بتبعية الحكومة العراقية لنظام آيات الله في إيران، واضعة خبراءها في خدمة تلك الحكومة من أجل الانزلاق إلى مزيد من التبعية التي تزيد من هيمنة الميليشيات الإيرانية على الحياة في العراق.
حرب ناعمة أخرى تشنها أوروبا على العراق غير أن وجهها الظلامي صريح ومكشوف هذه المرة.