هيثم الزبيدي يكتب:
فسادهم من فسادنا
قبل كل انتخابات، في كل أربع سنوات، تكثر البيانات والتصريحات والمناشدات والمطالبات التي يبالغ في إغداقها على العراقيين حكامُهم الإيرانيون وصحابتهم وتابعوهم الأقربون والأبعدون، والمرجعيون وخطباؤهم وخدمهم المؤتمنون، وسنةُ مشروع الإمام الخميني وأكرادُه، وسنة الولايات المتحدة وشيعتُها وأكرادُها، والتي يَعِدونهم فيها، بتصميم وإباء وشمم وبلا أي قبول لأي جدال ونقاش، بأن المسموح بمجيئهم، بعد خراب السنين المريرة السالفة، رؤساءَ ووزراءَ ونوابا ومدراءَ وسفراء، لا بد أن يكونوا، هذه المرة، زعماءَ حقيقيين نزيهين مستقلين، ذوي شهادات علمية غير مزورة، وشجعانا يبدأون، من أول أيام عهدهم الميمون، بفتح ملفات المصائب والكوارث المُدثرة والمؤجلة والمُرحَّلة، ويقتحمون منازل الفاسدين، دون خوف من أحد، ولا وصاية من حزب أو ميليشيا أو قبيلة، فيقتادون كبارهم قبل صغارهم إلى ساحة العدالة، أيا كانوا، وأيا كانت المخابرات الشقيقة والصديقة التي يحتمون بأموالها وسلاحها ونفوذها في العراق.
حتى صدقهم كثيرون، وترقبوا يوم الفتح المبين. ثم كانت المفاجأة، وتبين أن الذين تم اختيارهم، هذه المرة أيضا، زعماءُ ملفقون مزوَّقون مرتَّقون طارئون على الزعامة، يرتدي الواحد منهم ثياب أسد وهو أرنب، لا يهش ولا ينش وأن حليمة عادت كما كانت حليمة أيضا مع الأسف الشديد.
والأهم الأهم الذي أثبتته الانتخابات الأخيرة هو أن العراق الذي كان واحدا قد توالد، وتكاثر، وأصبح “عراقات” متعددة، منها الإيراني والأميركي والبريطاني والروسي والتركي والقطري والسعودي والأردني والداعشي والصدامي والإخواني.
وبعد أن كان كثيرون من العراقيين يظنون أن لكلَّ واحد من هذه العراقات مالكا واحدا، رئيس حزب أو ميليشيا أو عشيرة أو أسرة، وأنه حرّ في ملكه يديره لحسابه ولحساب أسرته وحزبه وقبيلته، وحده، لا شريك له، تبين لهم أن الذي كشفته لهم الانتخابات الأخيرة، بما فيها من بذاءات وسفالات ومقايضات ومناقصات وصفقات وتبادل مقاعد نيابية ومراكز رئاسية وحقائب وزارية، وتقلبات في الولاءات والانتماءات، هو أن أيَّ واحد من حكام تلك العراقات لا يملك مسمارا واحدا في عراقه الذي يجلس على عرشه كالطاووس، بدءا بهادي العامري ونوري المالكي ومسعود البارزاني ومقتدى الصدر وعادل عبدالمهدي وإياد علاوي وعمار الحكيم وبرهم صالح وخميس الخنجر وأسامة النجيفي وسليم الجبوري، وانتهاء بمحمد الحلبوسي.
فالملك كله لإيران وشيعتها وسنتها وأكرادها، وللولايات المتحدة وسنتها وشيعتها وأكرادها، بالتقاسم والتناغم والتفاهم، فقط لا غير. أما ما عداهما من حكومات وأجهزة مخابرات شقيقة وصديقة تزرع كثيرا ولا تحصد إلا قليلا، فليست سوى مُذنَّبات طائرة حائرة تدور حول أحد القطبين الكبيرين.
هل تتذكرون أيام رئاسة نوري المالكي القافز من وراء الصفوف، بقدرة السفير الأميركي زلماي خليل زاده، إلى مقعد الرئيس، والمعارك التي أدارها بين أحفاد الحسين وأحفاد يزيد، وملاحم مخيمات الاعتصام في الأنبار، وهل تعرفون كم سال فيها من دم، وكم أهدر من مال، وكم شرد من ناس، وما قيل فيها من خطب نارية ألقاها المجاهدون قادة الاعتصام السني وتهددوا فيها بالزحف على بغداد لتحريرها من المجوس؟
وهل تتذكرون ولادة الدواعش تحت خيم المعتصمين، وفي أحضانهم، وعلى هدير الفضائيات المجاهدة التي كانت تسميهم بـ“ثوار العشائر”؟
وهل تذكرون كيف سقطت الموصل والرمادي والفلوجة وتكريت وكركوك وسامراء وبعقوبة وجلولاء والمقدادية، وما رافقها من ذبح وتعليق جثث وحرق أسرى وهم أحياء؟ وهل تتذكرون ما فعلته إيران وميليشياتها بأهل تلك المحافظات السنة بحجة تحريرهم من داعش وظلمها وفجورها؟ وهل تتذكرون كم أنفقت الدولة العراقية من أموال، وكم أزهقت من أرواح لطرد داعش من مناطق احتلالها؟
وهل تتذكرون مسلسلات المفخخات والمتفجرات التي لم ترحم مدرسة أطفال ولا سوقا شعبيا ولا مسجدا ولا حسينية ولا كنيسة، وهل تعرفون من كان يديرها ولحساب من؟
وها تتذكرون منازلة مسعود البارزاني وخطاباته الحديدية النارية عن حق الانفصال الذي قال إنه لن يتحقق بغير الدم؟ وهل تتذكرون ما فعله حيدر العبادي والحشد الشعبي وسنة المالكي بأكراد كركوك وأربيل والسليمانية، وحرب التجويع والإفقار التي شنها المجاهدون العرب الشيعة ضد حلفائهم السابقين في حزب كاكه مسعود انتقاما من كل من صوَّت للانفصال أو باركه وهو يضع ورقة (نعم) في صندوق الاستفتاء؟
كل هذا الشريط السينمائي الطويل الدامي الممل المحزن الكريه تم حرقه أخيرا في بغداد. فقد عاد فخامة الرئيس مسعود إلى حلفائه القدامى واستقبله إخوانه في العاصمة بالأحضان، وعاد قادة الاعتصام السني إلى مرابع الحشد الشعبي، وتحت خيمة مشروع الإمام الخميني، وعفا الله عما سلف.
نعم. فقد صدرت لهم الأوامر من وراء الحدود، من طهران والدوحة وواشنطن وأنقرة ولندن، بأن تعود كل حبيبة إلى حبيبها، وكل أفعى إلى ثعبانها، وكل حمارة إلى حمارها، ليبدأ فيلم سينمائي جديد، بممثلين جدد، ولكن من نفس منازل الممثلين السابقين، وبنفس الأقنعة والملابس، وبنفس أصباغ الوجوه والحواجب والشفاه. ويسترنا الله من نهايته التي لن تكون بأفضل من نهاية الفيلم الذي أحرقوه. هل تريدون الحقيقة؟ إن فسادهم من فسادنا. فهل من مجادل؟