فاروق يوسف يكتب :
حيرة التونسيين بين ثورتهم والديمقراطية
ما الذي تعنيه كثرة عدد الأحزاب في تونس وهي بلد صغير، قليل السكان؟
يُقال إن هناك "215" حزبا تطمح جميعها إلى التنافس في الانتخابات القادمة. كلها أحزاب مدنية صغيرة، لن يُكتب لها أن تصل إلى عتبة البرلمان. وهو أمر مريح بالنسبة لإسلاميي حركة النهضة.
ليس المريح عدم وصولها المضمون إلى البرلمان ولكن تنافسها هو المريح.
فتشتيت الصوت الانتخابي المعارض لحركة النهضة يخدمها في ظل اطمئنانها إلى رصيدها الانتخابي الذي لسوء حظ تونس لم يتعرض للاضطراب، فهو رصيد ثابت لم يتغير بسبب جمود الحالة السياسية. وهو جمود فرضه فشل حزب نداء تونس في بناء قاعدة شعبية له بسبب اعتصامه بمشكلات الحكم التي هي انعكاس لفوضاه الداخلية وهو ما أضر به حتما، غير أنه كان نافعا لحركة النهضة.
لو كان حزب نداء تونس قد انفتح على قطاعات مختلفة من الشعب التونسي لما ظهر جزء كبير من تلك الأحزاب الصغيرة. كان من الممكن أن يكون جمهور تلك الأحزاب جمهوره الذي يقوي شوكته في مواجهة النهضة.
"نداء تونس" اسمه عريض غير أن مشروعه ضيق، بل لا أفق لذلك المشروع الذي عجز من خلاله الحزب عن احتواء قطاعات وفئات كثيرة من المجتمع التونسي الذي لم يتخل أهداف ثورته.
وبالرغم من ثقة التونسيين به فقد فشل نداء تونس في الاستجابة لمطالبهم التي لم تكن كبيرة ولا معقدة ولا غامضة. لا لشيء إلا لأنه حزب بني على عجل من أجل تلفيق بديل مدني للنظام السابق يغري التونسيين في أن يحتموا به في مواجهة هجمة ظلامية، مثلتها حركة النهضة.
سيكون من الصعب توجيه اللوم إلى شعب وضع ثقته في مَن لا يستحقها.
فما شهدته تونس بعد سقوط نظام بن علي من حراك سياسي اتسم بالفوضى وضع الشعب أمام خيارات ضيقة ومحدودة. وهو ما استفادت منه حركة النهضة التي وجدت في الديمقراطية التي لا تؤمن بها مصدر قوة يكسبها شرعية الاستيلاء على الحكم، وهو ما كانت تحلم به عبر سنوات.
كان ذلك الحدث المروع قد وضع حدا لطموحات اليسار الذي افتضح عسر خطابه السياسي وانقطاع صلته بمشكلات الناس الواقعية.
لقد هُزم يومها اليسار تاركا فراغا ملأته حركة النهضة مستعينة بفلسفة زعيمها الغنوشي في المراوغة والخداع والالتواء والتضليل والالتفاف والتعمية على الحقائق.
اتسمت مرحلة حكم النهضة بشعور عميق بالمرارة وخيبة الأمل والندم غير أن كل ذلك كله لم يدفع التونسيين إلى التراجع عن إيمانهم بأن الخلاص عن طريق الالتزام بمبادئ الثورة لا يزال ممكنا.
ولأن الهوة كانت واسعة بين الثورة والدولة التي سعت النهضة إلى بنائها فقد أعتقد الشعب أنه سيعيد الأمور إلى نصابها بالوقوف مع حزب نداء تونس بشخص رئيسه ومؤسسه الباجي قائد السبسي.
فالرجل يملك أفكارا تنويرية تعود إلى مرحلة تأسيس الجمهورية ولكن بناء نظام سياسي بعد ثورة اقتلعت نظاما سياسيا كان يتطلب بذل جهد لا يمكن تعويضه عن طريق الأفكار التنويرية.
واقعيا كان نداء تونس ندا للنهضة غير أنه في الحقيقة لم يكن كذلك.
لم يفهم حزبيو نداء تونس الذي أصابتهم السلطة بوعكة الرفاهية المؤقتة أن مخاض الثورة الحقيقي يتطلب الكثير من التضحيات من أجل بناء كتلة سياسية متماسكة تنقذ الدولة والشعب معا فتفرغوا لصراعاتهم التي أضفت على الشعب صفة المراقب الذي توقعوا منه أن يكون محايدا.
لذلك يمكن اعتبار ظهور "215" حزبا صغيرا صفعة تاريخية لنداء تونس الذي أخفق في أن يحتوي كل تلك الأحزاب قبل نشوئها.
لا تشجع تجربة نداء تونس على إعادة انتخابه وذلك يعني انتصارا للنهضة وهو ما يمكن أن يقود إلى الفوضى. فالشعب الذي يفكر في مصير ثورته يحلم بالعدالة الاجتماعية وسيادة القانون ومبدأ المواطنة سيجد في الديمقراطية عدوا يطيح بآماله.
فهل سيثور التونسيون هذه المرة على الديمقراطية أم أنهم سيطوون أوراق ثورتهم في انتظار أمل تاريخي جديد؟
التونسيون اليوم شعب يقف حائرا بين ديمقراطية أفسدت أحلامه وبين ثورة لا تزال عيونهم ترنو إلى مكتسباتها.