فاروق يوسف يكتب:
الخميني الميت يتفقد أحوال الخميني الحي
بالنسبة لزعيم الثورة الإيرانية فإن “تصدير تلك الثورة” لم يكن شعارا يُرفع في المناسبات الدينية بل كان في حقيقته مبدأ وجود، من غيره لا يمكن أن تستمر الثورة. فالخميني تعامل مع سقوط نظام الشاه في إيران استنادا إلى الحمولة الرمزية لذلك الحدث باعتباره واحدة من معجزاته. المعجزة التي يمكن أن تجر وراءها معجزات أخرى سيؤكد من خلالها إمامته للأمة.
ولم تكن الطريق إلى القدس التي تمر بكربلاء نوعا من الحدس الغيبي بقدر ما كانت مقدمة لسيناريو ابتلاع المنطقة التي كان الخميني يؤمن جازما بأن وقوعها تحت هيمنته المباشرة ستضع العالم مضطرا في مواجهة حرب عالمية ثالثة، يكون الإسلام بصيغته الخمينية هذه المرة محورها.
لذلك لم تنطو رسالته إلى الإيرانيين على الدعوة لبناء إيران جديدة، بقدر ما انطوت على دعوة للاستعداد لحرب طويلة الأمد، يكون هدفها “استعادة” الإسلام لأراضيه لا من أجل أن تتشكل الإمبراطورية الإسلامية من جديد بل من أجل أن تتحرر أراضي تلك الإمبراطورية من الكفر والكفار لتكون مستعدة لاستقبال ظهور الإمام الغائب.
ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف فقد سحق الخميني أعداء ولايته في الداخل الإيراني بأساليب دموية غلب عليها طابع الحقد الشخصي. هو ما صار يميز علاقته بالعالم الخارجي عبر عقد من الزمن.
غير أن الخميني الذي عجن عجرفته القومية المستلهمة من الـ”شاهنامة” بتطرفه الطائفي القائم على أساس مرويات تاريخية استطاع المؤرخون الفرس تمريرها لم يكن يفكر في أن محاولته الأولى في تطبيق برنامجه ستجرعه السم من أجل أن يتفادى انهيار ثورته.
لقد سلمته الحرب ضد العراق التي استمرت ثماني سنوات (1980 ــ 1988) إلى القبر من غير أن يكون مطمئنا إلى أن رسالته ستصل إلى الإمام الغائب حين يظهر. فإيران في كل المرويات الشيعية لن تكون المكان الذي يظهر فيه ذلك الإمام. وهو ما يعني أن أحدا ممن يتكلمون اللغة الفارسية لن يكون في استقباله. يبدو الخميني في حياته كما لو كان شريرا ساذجا.
مات الخميني بعد نهاية تلك الحرب بسنة واحدة وفي قلبه حسرة مصدرها أن عدوه التاريخي صدام حسين لا يزال حيا وقويا ولم يعرف أن ذلك العدو سيفرط بقوته وكل ما وهبته الحرب من مكانة سياسية متقدمة في المنطقة في لحظة طيش وغباء، جرّت العالم العربي الذي حلم الخميني بتدميره من أجل بناء عالمه المتخيل إلى دروب متاهة لم يخرج منها عبر ثلاثة عقود.
حطّم صدام حسين المشروع القومي العربي باحتلاله الكويت فكان مشروع الخميني في تصدير الثورة جاهزا لملء الفراغ. أما لماذا لم يعرض العرب مشروعا بديلا فذلك يعود إلى أنهم ومنذ ظهور الخطر الإيراني اتبعوا سياسة ردود الأفعال وهي سياسة لا يمكن التعويل عليها في صنع إرادة بناء مستقلة. وحين اجتاح صدام حسين الكويت فإنه فتح أماما عدوه الخميني أبواب النجاة من حسرته.
فشل العرب في التصدي لعدوين في وقت مباشر فهدتهم ردود أفعالهم إلى العدو المباشر وهو صدام حسين وتركوا عدوهم الذي صار غير مباشر يعيث في أرضهم فسادا. من المؤكد أن الخميني الميت وهو يرى ما يتحقق من مشروعه على الأرض هو أكثر سعادة من الخميني الحي الذي قُدّر لمشروعه أن يصطدم بمشروع صدام حسين الذي قهره. واقعيا فإن قاسم سليماني يطأ الأرض العربية بقدمي الخميني الميت.
تلك الأراضي التي حلم الخميني الحي بفتحها صارت رهينة تعليماته التي يصدرها من القبر. وهو ما يقرّبه من حلمه بقيام الحرب العالمية التي ستضعه في مقدمة مستقبلي الإمام المهدي. غير أن ما لم يتوقعه الخميني الميت سيكون صادما للخميني الحي.
فإيران اليوم بالرغم من تمددها الجغرافي والسياسي هي بلد محاصر بل هي محاصرة لأنها تمددت أكثر مما هو مسموح بها. القانون الدولي الذي لم يعترف به الخميني في حياته سيضيق عليه الخناق في موته. سيكون على الميت أن يتفقد أحوال الحي وهما يتناجيان بحثا لإنقاذ الثورة التي يمكن أن تنتكس في عقر دارها بعد أن فرّخت ميليشيات إرهابية في بقاع مختلفة من العالم العربي.
بعد أربعين سنة من وصوله إلى طهران قادما من باريس يبدو الخميني في حيرة من أمره. فالحرب التي حلم بها لن تقع مثلما تخيلها والثورة التي حلم بتصديرها صارت سببا لمطاردة أتباعه بتهمة الإرهاب.
إن أشد ما يخشاه الخميني الميت اليوم أن يتم الكشف عن أسرار الخميني الحي بعد أن تسقط جمهورية آيات الله في إيران.