الحبيب الأسود يكتب:

البابا والإمام في عاصمة السلام

من دار السلام أبوظبي، جاءت مشاهد زيارة البابا فرنسيس الثاني بابا الفاتيكان، لتعكس للعالم روح التسامح الإماراتي في أفضل وأنبل صوره، ولتبعث الأمل في نفوس العرب قاطبة بأن القضاء على التعصب والتشدد والإرهاب والظلامية ممكن، بل وأكيد، طالما هناك إرادة سياسية ووعي حضاري وذكاء اجتماعي، وحوار ثقافي قادر على إيصال الرسالة إلى الجماهير، وعلى التأسيس لقيم جديدة تدفع نحو عالم إنساني متسامح لا فوارق ولا حواجز فيه بين البشر.

وزيارة البابا إلى أبوظبي، تتخذ بعدا مهمّا كونها الأولى من نوعها التي يقوم بها القائد الروحي للكنيسة الكاثوليكية والتي يربو عدد أتباعها على 1.147 مليار نسمة، إلى بلد خليجي، بما يعطي ذلك من مؤشرات عن الدور الريادي الذي تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة في محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي، وعلى مستوى العالم، وهو دور كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سبّاقا إلى تكريسه وترسيخه في مدرسته التي أسس على ضوئها دولة الاتحاد في ديسمبر 1971، وسار عياله بعد ذلك على نهجه، مجسدين المبدأ والفكرة في مبادرات ومنجزات حقيقية، جعلت من
الدولة الفتية منارة للتسامح والمحبة والسلام.

وقد أعطت أبوظبي لزيارة البابا رمزية أخرى مهمة بدعوة الإمام الأكبر للأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، الذي يمثّل عنوانا للتسامح الإسلامي، وأحد آباء الحوار بين الأديان والثقافات، ليكون في الموعد الذي انطلق أمس، وهو مؤتمر الأخوة الإنسانية، الذي انطلقت فعالياته أمس في دار زايد برعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الرجل الذي رفع راية التنوير، وقاد مرحلة الدفاع عن خيارات العقلانية والحوار بين الشعوب والأمم والتصدي للتطرف الفكري وسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف، وتساهم في إعادة بناء جسور التواصل والتعارف والتآلف والاحترام والمحبة، ومواجهة التحديات التي تعترض طريق الإنسانية للوصول إلى الأمان والاستقرار والسلام وتحقيق التعايش المنشود.

أصدرت الإمارات قانون مكافحة التمييز والكراهية الذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، وأعلنت عددا من المبادرات الفاعلة في مجال تعزيز الحوار بين الشعوب والأديان

وتأتي زيارتا البابا والإمام أحمد الطيب إلى دار السلام أبوظبي في ظل عام التسامح 2019، وهو يرسخ دولة الإمارات عاصمة عالمية للتسامح، ويؤكد قيمة التسامح باعتبارها عملا مؤسسيا مستداما من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات الهادفة إلى تعميق قيم التسامح والحوار وتقبّل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصا لدى الأجيال الجديدة بما تنعكس آثاره الإيجابية على المجتمع بصورة عامة.

كما أنّ عام التسامح هو امتداد لـ“عام زايد” كونه يحمل أسمى القيم التي عمل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على ترسيخها لدى أبناء الإمارات، إذ أن “ترسيخ التسامح هو امتداد لنهج زايد.. وهو قيمة أساسية في بناء المجتمعات واستقرار الدول وسعادة الشعوب”، كما جاء في قرار إعلان التسامح الصادر عن رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان.

والتسامح بالنسبة للإمارات هو خيار سياسي وثقافي واجتماعي في بلد يضمن السلام والوئام والتعايش لأبناء أكثر من 200 جنسية يقيمون على أرض الدولة، ويمارسون حرياتهم العقائدية في أمن وأمان، وفي ظل الاحترام الكامل لخصوصياتهم الثقافية والدينية، تحت مظلة قوانين تقدميّة ترعى وتحمي ذمم الجميع دون استثناء.

وكانت القيادة الإماراتية قد أعطت لشعبها المثال الحيّ في التسامح وفي تكريس ثقافته عندما وجّه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بإطلاق اسم مريم أم عيسى (عليهما السلام) على مسجد الشيخ محمد بن زايد في منطقه المشرف، وعندما أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جائزته العالمية للسلام وهي جائزة تنطلق من التعاليم الإسلامية السمحة، وتتجلّى فيها معاني التسامح والاعتدال، فضلا عن دورها في خلق قنوات للتواصل مع الشعوب كافة، تعزيزا للعلاقات الدولية، وتحقيقا للسلام العالمي.

وسيكون البابا فرنسيس أول بابا يقيم قداسا في شبه الجزيرة العربية، وذلك خلال رحلته لأبوظبي والتي يزور خلالها أيضا جامع الشيخ زايد الكبير. وكان البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، قد ترأس في مايو 2014 أول قداس في دولة عربية بكاتدرائية الأنبا أنطونيوس بأبوظبي، كما قام بتدشين كنيسة السيدة العذراء بإمارة الشارقة، وزيارة مسجد الشيخ زايد، مُشيدا بقيمة التسامح الراسخة في الإمارات قيادة وشعبا.

وفي العام 2016 تم بعث وزارة التسامح، في بادرة هي الأولى من نوعها على صعيد العالم تمثّل خير دليل على تلك المعاني التي عبّر عنها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حين شدد على ضرورة إرساء قيم التسامح ونبذ التطرف والانفتاح على الثقافات والشعوب كتوجه مجتمعي عام تنخرط فيه فئات المجتمع كافة بما فيها القطاعيْن الحكومي والخاص، داعيا إلى ضرورة أن تقود دولة الإمارات حركة الإنتاجات الفكرية والثقافية والإعلامية التي ترسخ قيم التسامح والانفتاح على الآخر في العالم العربي وفي المنطقة، حيث إن “أكثر ما نفاخر به أمام العالم ليس ارتفاع مبانينا ولا اتساع شوارعنا ولا ضخامة أسواقنا بل نفاخرهم بتسامح دولة الإمارات” وفق قوله.


كما أصدرت الإمارات قانون مكافحة التمييز والكراهية الذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، وأعلنت عددا من المبادرات الفاعلة في مجال تعزيز الحوار بين الشعوب والأديان مثل “البرنامج الوطني للتسامح” و“جائزة محمد بن راشد للتسامح” إلى جانب تأسيسها العديد من المراكز الهادفة إلى محاربة التطرّف مما ساهم في تصدّر الإمارات المركز الأول في مؤشر “التسامح مع الأجانب” في ثلاثة تقارير دولية للعام 2017 - 2018 هي: الكتاب السنوي للتنافسية العالمي، وتقرير مؤشر الازدهار الصادر عن معهد “ليجاتم” ببريطانيا، وتقرير مؤشر تنافسية المواهب العالمية الصادر عن معهد “إنسياد”.

ومن ينظر إلى التاريخ القريب للإمارات، سيدرك أن ثقافة التسامح كانت من أساسيات بناء الدولة. وقد تجسدت في مواقف الشيخ زايد الذي كان من أبرز المدافعين عن هذه القيمة، حتى أنه زار الفاتيكان منذ 68 عاما لترسيخ روح السلام والمودة، فيما يدل أن ما يفعله الأبناء هو امتداد إلى تاريخ من التسامح وقبول الآخر، وقد أشار البابا فرنسيس إلى مواقف الأب المؤسس وإلى مبادرات أبنائه بكثير من الإعجاب، وأبناء زايد ليسوا فقط الشيوخ المنحدرين من صلبه، وإنما هم شعب بكامله، يؤمن بالخير والسلام ويتبنّى الحوار والتسامح ويرفض التشدّد والتعصب، وينبذ الكراهية والحقد الأعمى ويُدين الإرهاب والتكفير وما يجرّانه من شر مستطير.

إن زيارة البابا والإمام إلى دار السلام تمثّل حدثا مهما في المنطقة والعالم، وهي تأكيد جديد على أن دولة الإمارات قادرة دائما على أن تشيد جسور التواصل بين الحضارات والثقافات وبين الشعوب والأمم والجماعات لما فيه خير الإنسانية قاطبة، وهذا في حدّ ذاته إنجاز عظيم يحسب لها، ويكبر بها، ويحمل لعموم العرب والمسلمين أملا في أن تنطلق الأمّتان نحو المستقبل بوعي حقيقي تنبعث أنواره من أبوظبي.