فاروق يوسف يكتب:

بيروت أمين الباشا

ما من أحد أحب مدينته وعبر عن حبه لها من خلال أعمال فنية ستخلده وتخلدها مثلما فعل الفنان أمين الباشا مع بيروت، غرامه وهيامه وإلهامه وربة جماله ومعذبته وأنيسة لياليه وماكنة أحلامه وبحة نايه وساحرة أصابعه الخلاقة.

بيروت وأمين الباشا هما الشيء نفسه، الكائن الآخر الذي امتزجت به الذات فصارا واحدا، رسومه تنزلق على رمل بحرها وتمشي على أرصفة شوارعها وتجلس في مقاهيها لتتأمل مجانينها.

رأيته ذات مرة فخُيل إليّ أنني انزلقت إلى حلم، مفرداته تتشكل من هبات هواء ناعم تحمل بين طياتها كلاما، لم يقله أحد لأحد من قبل. كان هناك صوت أمين الباشا، غير أن صوت بيروت غمر روحي برقة وقوة ومكر أنوثته، نشيد ملائكة مرحين اكتشفوا أن جزءا فالتا من الجنة قد طوى دفتيه رسام، فتنته مشاهد أبدية لم يرها أحد من قبل.

مَن لم ير رسوم الباشا فكأنه لم ير بيروت في حقيقة جمالها الأخاذ الذاهب إلى السماء مباشرة، بيروت الآخرين ليست هي بيروت الباشا، لقد خلقها من عجينة شغفه بها ومضى بجمالها إلى مكان خفي لا تصل إليه العيون.

بيروت التي تسكن رسومه هي مدينة مجاورة للكوكب، هي الكوكب الذي تلمسنا شمسه بدفء ضوئها من غير أن نراها، أحبها فأحبته ووهبته ما لم تهب الآخرين من فيض تمردها.

حرص الباشا على أن يحمل كراسته معه، لأنه كان يحتاط للقاء بيروت جديدة، تخرج بنضارة مثل وردة يزيل عنها الفجر غشاء نعاسها، مائياته هي عبارة عن خلاصة ما يقبض عليه من عطر تلك الوردة التي لم تقتلها الحرب.

كان الباشا يثق ببيروت مثلما يثق برسومه، لقد وهبته تلك المدينة حياة مضافة، عاشها بعمق وتأمل، كما لو أنه قضاها وهو يصلي شكرا للطبيعة التي وهبته كل ذلك الحُسن، لقد سكنته بيروت مثل روحه، وحين غادرته الروح، فإنه ترك من بعده روح بيروت هائمة بين رسومه.. وداعا أمين الباشا.