محمد أبوالفضل يكتب:
كوابح التطبيع العربي مع إسرائيل
احتفاء عدد من قيادات إسرائيل بالتواصل المباشر مع بعض الدول العربية، يوحي أنها تجاوزت خطوط الممانعة التاريخية، ويتعمد هؤلاء المبالغة في تقييم المردود السياسي لأي لقاء يكون طرفه عضو إسرائيلي، ويتم تسويق المسألة على أن جبال الثلج تمت إذابتها.
الاهتمام بهذه التطورات يؤكد أن ورقة التطبيع تمثل هاجسا لدى إسرائيل، رسميا وشعبيا، ومع كل ما اتخذته من خطوات عسكرية وتوسيع نطاق الاستيطان وتجاوزات قوات الاحتلال وانخفاض سقف الطموحات الفلسطينية، إلا أنها تشعر بالغربة وسط المحيط العربي الجارف، وتعتقد أن انخراطها في تعاون سياسي واقتصادي هدف إستراتيجي لن يتم التنازل عنه، لأنه ينطوي على أحد ملامح التطبيع الشعبي في المستقبل.
المعلومات والتعليقات والمواقف التي رشحت عن مؤتمر وارسو للأمن والسلام في الشرق الأوسط مؤخرا، تشير إلى أن التطبيع مهم للغاية لإسرائيل، ويجب فصله عن التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وهي حيلة تراودها منذ فترة، وتستغل فيها بعض الصراعات والتوترات الإقليمية التي تفرض التحية أو اللقاء العابر أو الحوار مع قادة إسرائيل في مؤتمرات دولية، وحرف الأنظار نحو العلاقات في إطارها الثنائي وتفريغها من مضمونها العربي العام.
مؤتمر وارسو أحد التجليات التي تبارى فيها بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، في الإيحاء بأنه قائد قطار التطبيع الجديد مع الدول العربية، وتعمد جيسون جرينبلات المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط، التوقف عند لقطة منح خالد اليماني وزير خارجية اليمن للميكروفون لنتنياهو في أثناء جلوسه بجواره في المؤتمر، كأنها خطوة أولى في التعاون بين إسرائيل واليمن.
التغيرات التي حدثت في المنطقة شجعت الولايات المتحدة على محاولة زيادة العلاقات بين إسرائيل ودول عربية غير مرتبطة باتفاقيات سلام معها، وجرى التضخيم السياسي لبعض اللقاءات التي عقدت مؤخرا، والتعامل معها باعتبارها خطوة كبيرة ولها دلالات عميقة، من دون ربطها بثوابت مبادرة السلام العربية، أو مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني الرئيسية.
العزف على أوتار اللقاءات بعيدا عن القضية الفلسطينية، وجد مبرراته لدى إسرائيل في السعي حثيثا للالتفاف حول عدو واحد مشترك، وهو إيران، مستفيدة من التدخلات السافرة التي تقوم بها في شئون بعض الدول العربية، والغضب الذي يساور كثيرين من طهران، واتخذها نتنياهو ذريعة لتقديم العدو المحتمل على العدو الفعلي.
الوعي العربي يدرك رغبة إسرائيل في التسلل من هذا الباب، ويعي أن الخلافات مع إيران لن تكون المدخل الذي تخترق منه إسرائيل جدار الممانعة العربية، فجميع اللقاءات المعلنة والسرية مع مسئولين إسرائيليين لم يجرؤ أصحابها على الحديث عنها بحسبانها تطبيعا مباشرا، بل فرضتها ظروف وتقديرات إقليمية معينة، والدليل أن غالبية الدول العربية ترى أولوية في الحل العادل للقضية الفلسطينية وتربط بينها وتطور العلاقات مع إسرائيل.
كلمة التطبيع كانت محرمة أو منبوذة في كثير من الدول العربية، وربما سقطت مفردات سياسية منها أو انغمس البعض في همومه الداخلية، لكن في كل الحالات لم يتم إسباغ مشروعية تامة عليها، وربطها بالتسوية السياسية لن يكون كافيا لتمريرها شعبيا، ولعل التجربة المصرية واضحة في هذا المجال، ولم تفلح اتفاقية كامب ديفيد الموقعة منذ أربعين عاما في ترسيخ مفهوم التطبيع.
الغرور الذي ينتاب إسرائيل، جاء من رحم التفسخ العربي، والانقسام الفلسطيني، وسباق البعض لتوظيف العلاقة معها كبوابة لعقل وقلب الولايات المتحدة، ناهيك عن خروج بعض الدول العربية، سوريا مثلا، من معادلة الصراع معها في الوقت الراهن، ومساعي دءوبة يبذلها آخرون، قطر مثلا، لضمان البقاء بالقرب منها، ولذلك تلجأ الدوحة لتعظيم دورها، والاصرار على تقديم خدمات تضر بالقضية الفلسطينية.
التطورات الحاصلة في علاقات إسرائيل مع دول عربية وأفريقية قللت من الأهمية السياسية والإعلامية لقطر، والتي كانت أول من فتحت الأبواب أمامها، من خلال لقاءات وزيارات متعددة، وساهمت قناة الجزيرة في تقديم خدمات معنوية جليلة عبر ظهور الكثير من قادة إسرائيل على شاشتها ورؤيتهم من قبل المشاهدين في دول عربية مختلفة.
لم تفلح عملية التسويق التي قامت بها الدوحة في تعويم فكرة التطبيع، الذي سوف يظل مرتبطا بما يراه العرب من عدوان تاريخي على حقوق الشعب الفلسطيني، ولو جرى التوصل لتسوية سياسية لقضيته، فما بالنا والعجرفة تزداد صلفا وصفقة القرن متعثرة والحل يبدو بعيد المنال؟
المشكلة التي لن تفلح إسرائيل في تجاوزها بسهولة أن جزءا كبيرا من الوجدان العربي يرفضها بالفطرة، وهناك قطاعات شبابية عديدة، لا علاقة لها بالسياسة، ترفض مناقشة النظر إليها ككيان طبيعي في المنطقة، ومع أن تسليط الأضواء على القضية الفلسطينية تراجع، غير أن الرفض التلقائي لإسرائيل يحتل مكانة متقدمة، وأخفقت أدواتها المباشرة والملتوية في تغيير الصورة النمطية السلبية عنها.
المعنى السياسي الذي تحمله هذه النتيجة يضع مجموعة كبيرة من الكوابح، تحول دون وصول التطبيع إلى محطة مستقرة، وأن خلق شبكة قوية من المصالح والبحث عن قواسم لمواجهة خصم مشترك أو أكثر، لن تكون كافية لتجاوز الممانعات التاريخية، فقد أصبح الرفض كأنه عقيدة ترسخت لدى أجيال متباينة، بما فيها من لم يعرفوا أصلا معنى التطبيع.
القلق الذي يساور البعض عند كل إعلان عن لقاء يضم إسرائيليين وعرب، ربما يكون في غير محله، فالسياسي يستطيع أن يتصرف وفقا للمعطيات التي تفرضها التطورات الإقليمية والدولية، لكنه لن يكون مخولا فرض التطبيع على المواطنين، وربما لا يريد، ولعل الطريقة السرية التي تدار بها معظم أشكال التعاون الأمني والسياسي والاقتصادية مع إسرائيل، تؤكد أن التطبيع يقع في نطاق التحريم بالنسبة لكثير من شعوب الدول العربية.
التساهل الذي تبديه بعض الحكومات في هذا المجال لأسباب دبلوماسية، لن يغير المعادلة في الشارع العربي، لأنه من الصعوبة أن يتخلى عن فكرة الحواجز النفسية، خاصة أن الصورة التي يقدمها فلسطينيو 48 كاشفة لهذا المعنى، والسنوات الطويلة التي عاشها غالبية هؤلاء وسط المجتمع الإسرائيلي لم تفلح في تغيير نظرتهم السلبية، بل أدت كثافة الاحتكاكات اليومية إلى تعزيزها، جراء التجاوزات التي يتعرضون لها، من هنا تبدو الكوابح متجذرة ومتشعبة.