فاروق يوسف يكتب:

وصية الجمال

لا تقيم البحرين في ما نراه منها، هناك سر خفي هو ما يجعل المسافر إلى ذلك البلد يلتفت إليه حين يغادره، كما لو أنه ترك شيئا عزيزا لن يجد له مثيلا في كل بقاع الأرض.

ربما يجد شخص مثلي يلهمه الجمال إيقاع حياته في الصنيع الفني بدرجاته المختلفة تجسيدا لذلك السر العميق، تلك الجزيرة هي أشبه بماكنة لإنتاج الجمال الذي يخلق حياة مجاورة، فما أسّس له الفنانون عبر العقود الماضية لا يزال نضرا ولم يذهب إلى الماضي، الحاضر ليس نبوءته، بل هو أرضه التي تستقبل ثمار شجرته الطرية واللينة.

أمشي في أروقة المعرض السنوي للفنانين التشكيليين مشدودا إلى سحر الآباء المؤسسين الذين صنعوا من دلمون حقيقة كل يوم وفكرة عيش عند الحافات القصية، تقع نظراتهم الملهمة برضا على الأمواج التي تلقي على الشاطئ في كل مرة فكرة جديدة عن جمال سيكون بمثابة وديعة صافية، هي الوصية التي يسلمها جيل إلى الجيل الذي يلحق به.


هذه بلاد كريمة تهب في لحظة عصيبة من تاريخنا ما صرنا نفتقده في حياتنا الغاصة بالسواد، إنها تفتح ثغرة يطل من خلالها فنانوها على الأمل.

لأول مرة ومنذ سنوات أدخل إلى معرض جماعي وأشعر أن الجمال لا يزال بخير، رأيت أعمالا لفنانين عرفت تجاربهم، غير أنهم اليوم صاروا يحلقون أعلى من المناطق التي تركتهم فيها منذ سنوات.

غير أن المدهش أن هناك فنانين جددا، لم يسبق لي أن رأيت تجاربهم، شباب حضروا من جهة غير متوقعة هم الذين يعدون بما لا يتوقعه أحد، بفكرة العيش في الفن باعتباره حلا اجتماعيا وثقافيا خالصا.

مع كل خطوة ألقيتها على أرض ذلك المعرض كنت أنصت لأصوات أشباح الآباء وهي تصفر بنغم سعادتها، هذه بلاد لا يزال الجمال فيها ممكنا وبأرقى صوره، الوديعة صارت قوتا يوميا والوصية هي المصباح الذي ينير طرقا لا تزال تتشكل، البحرين بلد كبير بصنيع فنانيه.