محمد أبوالفضل يكتب:

تحركات سياسية جديدة في القرن الأفريقي

لم تتوقف وتيرة التحركات السياسية على صعيد القرن الأفريقي طوال الأشهر الماضية، بهدف تحجيم الصراعات والنزاعات في المنطقة، وتمهيد الطريق لتوسيع أطر التعاون بين دولها، وحقق التوجه الجديد الذي يتبناه قادة إثيوبيا وإريتريا وكينيا والصومال وجنوب السودان وجيبوتي نتائج إيجابية، شجعت على سد الكثير من الثغرات التي تأتي منها بعض التوترات، وقد استفادوا من الدعم السياسي والمادي الذي وفرته السعودية والإمارات في هذا المجال.

يمضي قادة دول المنطقة في طريقين، أحدهما بذل جهود كبيرة لتصفية مشكلات تاريخية أرقت شرق أفريقيا برمتها، والآخر هو البناء على القواسم المشتركة لخلق شبكة متماسكة من المصالح، كفيلة في المستقبل بمنع اللجوء إلى سلاح القوة العسكرية لحل الأزمات السياسية، وغلق الباب في وجه من يوظفون القلاقل الموجودة في المنطقة لصالحهم، الأمر الذي أفضى إلى ظهور موجة من الإرهاب أخلّت بكثير من التوازنات التقليدية، وأيقظت بعض الحساسيات القديمة المقيتة، وأشعلت صراعات حدودية كادت تنتهي من قارة أفريقيا.

أصبحت القيادة الإثيوبية، ممثلة في آبي أحمد رئيس الوزراء، عنصرا مشتركا في غالبية التحركات الإقليمية الجارية، حيث يتبنى الرجل رؤية تعاونية متقدمة ويريد تعميمها بين دول المنطقة كمدخل للمصالحة والأمن والاستقرار والمشروعات الواعدة، ولديه رؤية تنموية شاملة، قادرة على أن تخرج بلاده والدول المجاورة من حزام الفقر الممتد، ويطوي الجميع صفحاتهم القديمة والدخول في مرحلة تعتمد التفاهمات كوسيلة لتقديم حلول مبدعة.

تؤكد زيارة محمد عبدالله فرماجو رئيس الصومال لأديس أبابا، الثلاثاء، هذا المنحى، فالزيارة هدفها بحث العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، في إطار مبادرة آبي أحمد للسلام والأمن الإقليميين والتكامل الاقتصادي في منطقة القرن الأفريقي.

وعقد آبي أحمد، وسلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان، وأسياسي أفورقي رئيس إريتريا، قمة في جوبا، الاثنين، اتفقوا فيها على القيام بإجراءات لتحقيق تكامل مشترك، وتكليف وزراء الخارجية في الدول الثلاث تصميم مشروعات من شأنها الوصول إلى هذا الهدف، والعمل على دعم السلام في جنوب السودان بشتى الأدوات الممكنة، والتنسيق لتوحيد مواقف بلدانهم في القضايا الإقليمية.

وتخشى أديس أبابا وحلفاؤها في المنطقة من حدوث انعكاسات سلبية على دول المنطقة في ظل تصاعد حدة التظاهرات والاحتجاجات في السودان، ويشعر هؤلاء بالقلق من التأثيرات السلبية لذلك على دولة جنوب السودان، وقد لعبت الخرطوم دورا مهما في تهيئة الأجواء أمام تمرير اتفاق السلام بين الحكومة والمعارضة.

تريد إثيوبيا تحديدا الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الذي وصلت إليه دولة جنوب السودان، وتحصينها ضد الثورات الشعبية، وخوفا من استغلال القطاع المعارض والرافض لاتفاق السلام الموقع في 5 سبتمبر الماضي، التوترات الراهنة في السودان، ومحاولة نقلها إلى العاصمة جوبا وغيرها من مدن جنوب السودان، ما يرخي بظلال سلبية على دول الجوار.

وتمثل قمة جوبا، الاثنين، خطوة جيدة لطمأنة القيادة السياسية في جنوب السودان، بأن دول الجوار حريصة على الاستقرار، والتصرف بصورة عملية لتحسين الأوضاع الاقتصادية هناك، باعتبارها السبيل الوحيد لدحض حجج المعارضين، فتقوية جبهة سلفاكير وتشجيعه على تنفيذ اتفاق السلام مسألة ملحة وضرورية، ويمكنها أن تساعد على وقف زحف السيناريوهات السلبية الراغبة في استمرار الصراعات، لأن وقفها نهائيا يضر بمصالح من تعايشوا عليها فترة طويلة.

كان آبي أحمد قد وصل أسمرة، الأحد الماضي، في جولة تزامنت مع زيارة نظيره الكيني أوهور كينياتا لإريتريا، وناقش قادة الدول الثلاث (إريتريا وإثيوبيا وكينيا) مجموعة من القضايا الإقليمية الحيوية، لتطوير التعاون في المنطقة، ومحاولة تسوية الأزمات التي تقف حائلا أمام تطوير التعاون، وهي دلالة على رغبة لحماية الهدوء الظاهر في المنطقة.

وأعلنت الخارجية الكينية خروج الاجتماع الذي جمع كينياتا مع زعيمي إريتريا وإثيوبيا بتفاهمات جديدة نحو تحقيق الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ما يدعم التوجه العام نحو تصفية المشكلات العالقة، وفتح مجال رحب للتنسيق في الملفات المشتركة، وتمهيد الطريق لتدشين خطط طموحة تراود بعض قادة المنطقة للتعاون الإقليمي.

واستضافت إثيوبيا، في نوفمبر الماضي، قمة ثلاثية جمعت آبي أحمد وفرماجو وأفورقي، في سياق التحركات الرامية إلى زيادة ملامح التعاون في القرن الأفريقي، بعد إنهاء الحرب الطويلة بين أديس أبابا وأسمرة وإعلان السلام والصداقة بين البلدين في 9 يوليو الماضي.

يعكس تتابع الزيارات حاجة ماسة لدى دول المنطقة إلى تكوين جبهة مشتركة قادرة على ضبط الحدود المشتركة ومنع أي انفلات أمني قد يقع عبر تسرب عناصر إرهابية من خلالها إلى الدول المجاورة، ووضع اللبنات الأساسية لشراكة تكاملية ناجحة، وتعظيم الفائدة لما تملكه كل دولة من مقومات اقتصادية، أملا في تحقيق تنمية مستدامة.

وتملك أديس أبابا خطة كبيرة للاستفادة من موانئ إريتريا على البحر الأحمر، وجذب استثمارات مختلفة عبر تطويرها لكثير من المقومات الاقتصادية في المنطقة، والاستفادة من الثروات التي لفتت انتباه قوى دولية عديدة، وتقف بعض النزاعات حائلا أمام جني ثمارها.

وقررت حكومة جنوب السودان، الجمعة، إعادة إنتاج النفط المتوقف منذ اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013، بحجم يصل إلى 350 ألف برميل، وسوف يزيد مع نهاية العام الجاري ليبلغ 400 ألف برميل، وهي إشارة اقتصادية بمعان سياسية تؤكد أن هناك تغيرات فعلا على الأرض، ويساهم المزيد من التنسيق في تذليل العقبات.

ولم يكن الإقدام على هذه الخطوة من دون توقيع اتفاق السلام في جنوب السودان، ولم يكن حتى التفكير فيها لو أن التقديرات القديمة لا تزال متحكمة في قرارات قادة المنطقة، فالخطوة تتجاوز دلالتها المباشرة، وتدعم التوقعات التي ذهبت إلى أن ثمة إرادة إقليمية جديدة كفيلة باحتواء الصراعات، وهو اتجاه تؤيده قوى كثيرة في العالم.

ويضاف توقيع اتفاق تحويل معبر أكوبو كمنفذ اقتصادي إقليمي، يبعد عن جوبا نحو 500 كيلومتر، إلى سلسلة من الخطوات الهادفة إلى تعزيز التعاون، فهو يربط بريا بين جنوب السودان وإثيوبيا، ويمكن أن يصبح نقطة التقاء لحل الكثير من المشكلات الناجمة عن تواتر النزاعات في دول المنطقة.

يرى البعض من المراقبين أن استقرار الأوضاع في جنوب السودان وضخ المزيد من النفط، يمكن أن يحولا أكوبو إلى مركز لتصدير النفط إلى إثيوبيا وتوفير احتياجاتها من الوقود.

وأصبح المعبر ملاذا للكثير من اللاجئين والنازحين عقب اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان، ومع توقفها تصاعدت الحاجة إلى تسوية إقليمية لهذا النوع من المعسكرات الإنسانية، التي تلقى تعاطفا من قوى دولية، وتدعم أيضا خطوات التعاون.

وتجد الطريقة التي تتبناها إثيوبيا حاليا ترحيبا من جهات متعددة، وتريد إعادة هندسة القرن الأفريقي على أسس تنموية، بما يُقصي دولا (مثل إيران وتركيا) جنت مكاسب من الفوضى التي شاعت في عدد من دول المنطقة، ومدت بصرها إلى تعزيز وجودها عسكريا وإلى التفكير في تهديد الأمن على امتداد البحر الأحمر.

تؤدي تهدئة الصراعات الحدودية ودعم مبادرات السلام الإقليمية، إلى فتح المجال للشروع في تنفيذ خطط تنموية متباينة، تفضي إلى ترسيخ المنافع المشتركة، وتقود تلقائيا إلى وأد النزاعات الداخلية، التي تبقى من أهم المنغصات التي تقلق قادة دول المنطقة، ولذلك شرعوا في أن يكون تجفيف منابع الأزمات الخارجية نقطة البداية لتجفيف أزمات الداخل، ما يؤكد أن الثانية تتغذى من الأولى.