الحبيب الأسود يكتب:

نحو خليفة لبوتفليقة يضمن الاستمرارية ويحترم التوازنات

الأوضاع في الجزائر لا تزال حبلى بالمفاجآت، والغموض يكتنف جانبا كبيرا مما يدور في كواليس السياسة، في الوقت الذي أكدت فيه قيادات المعارضة، على ضعف تأثيرها، أنها تعارض خارطة الطريق التي اقترحها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، بينما لا تزال المسيرات تملأ الشوارع سواء كانت طلابية أو مهنية أو شعبية عامة.

الواقع أن الاحتجاجات على العهدة الخامسة، كشفت عن تحضّر ووطنية الشعب الجزائري، وعن أصالة معدنه، وعن قدرته الفائقة على التعبير عن تطلعاته بشجاعة وانضباط وسلمية وهدوء، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم، كما كان الرئيس في مستوى طموحات شعبه، عندما قرر عدم الترشح من جديد، ولكن خارطة الطريق التي طرحها هي التي أثارت جدلا واسعا، وقوبلت برفض من أطراف عدة كانت تراهن فقط على أن تنتظم انتخابات 18 أبريل القادم، من دون بوتفليقة، لتصطدم بتأجيل الاستحقاق إلى أجل غير مسمّى.

القوى المؤثرة المحيطة بالرئيس، أو لنقل القوى الفاعلة في الجزائر التي كانت تقدم بوتفليقة كواجهة لها، ليس من السهل أن تسلّم مقاليد السلطة والنفوذ بسهولة، ودون أن يكون لها مرشح تثق به للمنافسة على الحكم خصوصا في ظل التحولات الإقليمية والدولية. فالحرس القديم لا يزال قائما في صور شتى، والجيل المؤسس، وإن كان في طريقه إلى الاندثار الكلي، فإن له جذورا ترثها من بعده أجيال تعتقد أنها تمتلك شرعية الاستمرارية، وترى أن الجزائر أكبر من أن يترك أمرها لأي ظاهرة سياسية طارئة.

حزب جبهة التحرير مثلا، اتجه إلى إعادة فتح قنوات الاتصال مع قدماء الحزب والقياديين المبعدين والمعارضين للأمناء العامين السابقين، وفي مقدمة هؤلاء عبدالعزيز بلخادم (74 عاما) الذي يعتبر حالة خاصة بين كل الأمناء العامين السابقين، والذي قد يكون مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة بعد أن كان ممنوعا من العمل السياسي لسنوات بقرار يقال إنه صادر عن بوتفليقة شخصيا، بسبب تفوّه بلخادم بكلمات قيل إنها غير لائقة خلال استقباله من قبل أمير قطر قبل أربع سنوات وفسرها البعض على أنها كانت على صلة بحرب الخلافة على الرئاسة.

بلخادم عاد إلى صدارة المشهد في أوائل ديسمبر الماضي، من خلال الاستقبال الحافل الذي حظي به في مقر حزب جبهة التحرير، حيث كان له لقاء مع المنسق العام للحزب سعيد بوشارب، وقيل آنذاك إنه قد يكون مرشحا لخلافة بوتفليقة، لكن الأخبار كذّبت ذلك في ما بعد، عندما تم الإعلان عن ترشيح الرئيس لعهدة خامسة، وهو الإعلان الذي قوبل برفض شعبي، وبإطلاق خارطة طريق ستؤدي إلى تنظيم الانتخابات أواخر العام الجاري أو أوائل العام القادم.

القوى الفاعلة في الجزائر التي كانت تقدم بوتفليقة واجهة لها، ليس من السهل أن تسلّم مقاليد السلطة بسهولة، دون أن يكون لها مرشح تثق به للمنافسة على الحكم

بلخادم قد لا يكون، عند البعض، الشخصية الحديدية القادرة على الإمساك بزمام الأمور، والضامنة للتحول السلس للسلطة إلى أجيال ما بعد الآباء الشرعيين لثورة التحرير، لذلك يبدو هناك شخص آخر يعتبر الرجل الأقوى حاليا في البلاد، وهو محل ثقة بوتفليقة، ويمكن أن يكون المؤتمن على الجزائر خلال العهدة القادمة، إنه الفريق أحمد قايد صالح (79 عاما)، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، وهو ممن يحملون رائحة بارود المقاومة المسلحة في الجبال أثناء حرب التحرير، كما كان من أبرز القادة العسكريين الذين واجهوا الإرهاب خلال العشرية السوداء، ويشار إليه دائما بأنه يمتاز بقدرة فائقة على إدارة الملفات الشائكة، وبالتالي فإنه يمتلك شرعيتي تحرير البلاد ثم الدفاع عنها، كما أنه يعبّر عن الدور التاريخي للجيش الذي لا يمكن فصله عن السياسة والمجتمع في الجزائر كما في مصر مثلا.

المتحمسون لقايد صالح، يؤكدون أن الرجل قادر على تأمين نقل الجزائر بسلاسة إلى مرحلة جديدة من تاريخها، نظرا لأن التجارب أثبتت أن أي تحول سياسي جذري لا يمكن تحقيقه فعليا إلا في ظل استمرارية قوة الدولة وهيبتها، خصوصا وأن الجزائريين يراقبون جيّدا تجارب مقارنة، وصلت ببلدانها إلى حافة الهاوية.

وعندما عاد بوتفليقة من رحلة العلاج في سويسرا، وبينما كانت الشوارع تهتزّ لصرخات المتظاهرين الرافضين للعهدة الخامسة، بث التلفزيون صورا للقايد صالح وهو يقرأ بعض الأوراق أمام الرئيس، وقالت وكالة الأنباء الحكومية إن قائد الجيش قدم خلال اللقاء تقريرا حول الوضع الأمني على المستوى الوطني لاسيما على الحدود، في حين ذهب البعض إلى أن ما كان قايد صالح بصدد قراءته، هو نص الرسالة التي ظهرت لاحقا بإمضاء الرئيس، وحملت جملة من المبادرات مع الإعلان عن عدم الترشح للرئاسة من جديد، فالجيش الجزائري يبقى الفاعل الأصلي في القرار السياسي، وقد كان موقفه واضحا في تأييد انتفاضة الشعب، وقد أكد قايد صالح على ذلك عندما أشار إلى أن “بين الجيش والشعب رؤية موحدة، حيث يتقاسمان ذات المبادئ”، وأن ما أثبته الشعب من “خصال عالية لن يحيد عنه الجيش وهو من صلبه”.

الأيام أو الأسابيع القادمة، ستكشف أن الرئيس بوتفليقة بقراره تأجيل الانتخابات، وعقد مؤتمر وطني جامع، وعرض دستور جديد للاستفتاء، إنما أراد مهلة لترتيب الأوراق من جديد، بما يعطيه والمحيطين به فرصة لضمان الاستمرارية ولكن بشكل مختلف من خلال شخصية تحظى بالاحترام وتعرف كيف تتعامل مع التوازنات، وهذا ما يرغب فيه الحرس القديم، وفي الوقت ذاته يضمن عدم الدخول بالبلاد في أي مغامرة غير مدروسة أو غير محسوبة العواقب