علي الصراف يكتب:
أحمد قايد صالح: الهاوية والمرتقى
يلوح في أفق الأحداث في الجزائر مفترق طرق يمكنه أن يضع الجيش الجزائري أمام هاوية لا قرار لها، أو أمام مرتقى يحفظه ويحفظ لجنرالاته موقعا جديرا بالاحترام.
اختيار الوجهة إنما يعتمد على حسن القراءة. وثمة عناصر لا بد من أخذها بعين الاعتبار. دون ذلك، فالهاوية أقرب:
الأول، إن التظاهرات التي أسقطت حكم عبدالعزيز بوتفليقة (من الناحية الواقعية)، يمكنها أن تُسقط أي حكم آخر لا يأتي متوافقا مع تطلعات الناس.
والثاني، إن الجيش الجزائري كان شريكا في المأساة، وجنرالاته في قلب معمعة الفساد. الأمر الذي يعني أنهم ليسوا خارج معادلات المساءلة. ليس بعد الآن.
والثالث، إن التظاهرات سلمية. وإن أي محاولة لاختلاق مبرر لإطلاق النار بمزاعم مُختلقة، سوف يقلب عاليها سافلها على الجيش وجنرالاته حتى لا يعود لهم موطئ قدم في الجزائر ولا في خارجها. ولسوف يكون مما لا مفر منه فتح كل الملفات.
والرابع، إن الجزائر لا تواجه تهديدات من الخارج، ولا حتى من الإرهاب (ما لم يتم اصطناعها). وهو ما يعني أنه لا يوجد مبرر لقيام الجيش بأي دور خارج الثكنات. إذا وقعت جريمة معزولة ما، فإن الأجهزة الأمنية كفيلة بها. ولكنها ستكون جريمة أكبر أن يتدخل الجيش بزعم مواجهة الإرهاب بينما المقصود مواجهة الاحتجاجات. إذا كانت جرائم عام 1988 قد تم نسيانها، فيحسن عدم دفع الناس لفتح ملفاتها من جديد.
والخامس، لقد كان الجيش طرفا في “العشرية السوداء”. فهذه لم تكن حربا “من جانب واحد”، ولا انتهاكاتها مورست من جانب السفاحين فقط، الذين استرضاهم النظام فيما بعد، وغازلهم وعفا عنهم.
والسادس، التيارات الإسلامية أصبحت حليفة للنظام الذي يريد الجزائريون تغييره. ودعاتها يدعون الناس إلى عدم “الخروج على الحاكم”، بينما الناس “يخرجون للبحث عنه”، كما تقول المزحة الشائعة.
والسابع، هناك فرصة يمكنها أن تجعل الجيش في مأمن من “التغيير” إذا ما اتقى جنرالاته الانقلاب على مشاعر الناس، وكفّوا عن البقاء في السفينة الغارقة.
لقد اتخذ رئيس أركان الجيش، نائب وزير الدفاع، أحمد قايد صالح، موقفا حذرا حتى الآن. فهو لم يكشف عن دعم الجيش للاحتجاجات ولا أعلن تمسكه بالنظام. وهذه بداية قد يصلح البناء عليها، ما لم يظهر أنها كانت خدعة لامتصاص الغضب قبل تحريك الدبابات.
الجيش الجزائري يمكنه أن يبقى حارسا للمرحلة الانتقالية، من دون أن يكون معنيا بمن يأتي أو من يذهب. فذلك ليس من شغله.
الدفاع عن مؤسسة النظام شيء، والدفاع عن عصابة النظام شيء آخر. يمكن للجيش أن يختار. هذا هو الوقت الذي يحدد موقعه “في اليوم التالي”. فإما هاوية وإما مرتقى.
في الهاوية، سوف تُفتح أبواب جهنم جميعها على كل الذين أثروا وأفسدوا وانتهكوا على حساب شعبهم. وفي المرتقى، فإن “عفا الله عما سلف” ستفتح بابا للنجاة إذا ما انطوت على كف اليد عن كل ما يخرج عن عالم الثكنات.
يمكن لجنرالات الجيش أن يكسبوا عفو الناس، إذا ما أظهروا احتراما لخياراتهم. ويحسن بهم ألا يساندوا حزبا ولا جبهة ولا تنظيما. كما يحسن بهم ألا يكونوا طرفا في لعبة الانتخابات أو الترشيحات، مهما عظمت الإغراءات. وهناك سبب جدير بالاعتبار لذلك.
المنعطفات الكبرى صعبة الدوران على سفينة كبيرة بحجم الجزائر، وغالبا ما تسفر عنها مصاعب ومظاهر فشل وتصادمات. ولو أن الجيش اختار أن يُرجح كفة طرف، فإنه سيغرق عندما يغرق ذلك الطرف بتلك المظاهر.
العملية الانتخابية يحسن أن تكون لعبة المعنيين بها فحسب. كما يحسن أن تقوم على برامج واضحة، وقابلة للمساءلة وأن تتعامل مع الحقائق بالكشف عن دفاتر الحساب.
لا للشعارات الفارغة. ولا للحلول الوهمية. ومن دون وعود سفسطائية، لا بالجنة ولا بالنار. كما لا حاجة إلى أعمال الانتقام. يكفي فقط أن ينشغل الجزائريون بالبحث عن برامج حقيقية لإعادة تدوير الموارد والإمكانيات، بالكثير من الأرقام والقليل من الكلام. وأن تكون الاختيارات قائمة على أساس النزاهة والمساواة بين الجميع.
السفينة سوف تبحر، في النهاية، إلى موانئ الاستقرار. لو حدث وأن تورط الجيش بأي شيء غير هذا، فإنه سيعرض كيانه إلى مخاطر هو أبعد ما يكون قادرا على التحكم بنتائجها.
النقمة التي تحرك ملايين الجزائريين ضد سلطة عبدالعزيز بوتفليقة، موجودة داخل الجيش أيضا، كما في كل الأجهزة الأمنية الأخرى. وهذا أمر خطير.
الخيارات الخاطئة يمكنها أن تصنع شرخا لا سبيل لإصلاحه داخل تلك الأجهزة. وستكون العاقبة مروعة.
التغيير أصبح تحصيل حاصل. لا توجد قوة يمكنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. ومن الخير لكل أركان النظام أن يمضوا مع الوقت، وأن يقبلوا ما يعنيه. أي شيء أقل من قبول التغيير والتعايش مع نتائجه، سوف يقلص مساحة التسامح ويأكل من فرص البقاء.
جبهة التحرير الوطني هي نفسها يجب أن تواجه استحقاقات التغيير وتقبل بمنطقه. وهو ما يعني أن تسلّم قياداتها التقليدية الراية إلى جيل جديد لعله يستطيع أن يحافظ على رونق الإرث التحرري.
لقد عرفت الجزائر رئاستين مؤقتتين في السابق.
الأولى، تولاها رابح بيطاط لمدة 45 يوما بعد وفاة هواري بومدين في كانون الأول – ديسمبر عام 1978. والثانية تولاها علي كافي بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف في حزيران – يوليو 1992. وهو ما يعني أن الرئيس بوتفليقة يمكنه أن يرحل من دون أن يزيد يوما واحدا على عهدته الرابعة. ويمكن لآليات التغيير أن تنطلق بأمن ومساواة وسلام. ويكفي للجيش أن يبقى حارسا على أمن البلاد، وأن يترك الناس يقررون مصائرهم ومصائر سلطتهم بأنفسهم.
ثمة هاوية تنتظر أحمد قايد صالح، وثمة مرتقى. وعليه أن يختار.