سالم الكتبي يكتب:

دور حيوي لروسيا في الخليج العربي

خلال زيارته مؤخراً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن روسيا مهتمة بتطبيع الأوضاع في منطقة الخليج العربي، وأنها عرضت مبادرتها بهذا الصدد على الشركاء في المنطقة، وأوضح الوزير الروسي خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، في أبوظبي، أن المبادرة الروسية “تقضي بتعزيز الثقة وإقامة التعاون في هذه المنطقة الحيوية بمشاركة جميع الدول”، مشيراً إلى أن لدى روسيا والإمارات مواقف واتجاهات مشتركة بشأن تسوية النزاعات في المنطقة. وقال “نحن على قناعة بأن استعادة وتعزيز الأمن مستحيل دون تسوية تلك النزاعات والأزمات بطرق سياسية ودبلوماسية على أساس القانون الدولي”، موضحا أن موسكو وأبوظبي تنطلقان من هذا الموقف في ما يتعلق بالوضع في كل من سوريا واليمن وليبيا.

روسيا تنطلق في موقفها من أن تحديات دولية متفاقمة، مثل الإرهاب وتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة غير المشروعة وشتى أنواع الجريمة المنظمة، تتطلب تعاوناً دولياً يبدأ من جسر الخلافات وإنهاء النزاعات وتسوية الأزمات عبر الحوار والحلول السياسية.

هذه الأسس والمبادئ تمثل قاعدة للتعاون الدولي في مواجهة التحديات وإنهاء الأزمات، ولكن تبقى الإشكالية متمثلة في مدى تجاوب جميع الدول مع هذه المبادئ، فالمسألة لا تقتصر على التصريحات والخطاب السياسي، بل لا بد وأن تتطلب كي ترى النور، استجابات وتحركات ومبادرات وقرارات سياسية واقعية من البعض، ولو أخذنا إيران على سبيل المثال لفهم إمكانية تطبيق مثل هذه المبادئ على مواقفها وسلوكياتها السياسية، فسنجد أنها تغرّد خارج السرب وبعيدة عن التوجه الروسي تماما.

فرغم علاقات التعاون الاستراتيجية التي تربط بين روسيا وإيران، فإن هناك مساحة كبيرة تفصل بين موقفي البلدين حيال تفسير ما قاله الوزير الروسي بشأن المبادرة التي يتحدث عنها وتقوم على “تعزيز الثقة وإقامة التعاون في هذه المنطقة الحيوية بمشاركة جميع الدول”، فإيران على سبيل المثال يمكن أن تردد نفس المفردات والكلمات، بل ربما تتحدث بطريقة خطابية أكثر جاذبية من ذلك بمراحل، ولكنها فعليا وعلى صعيد التطبيق العملي بعيدة تماما عن خط الحوار وتسوية النزاعات وإنهاء التوترات عبر تفاهمات وحلول سياسية تحقق الأمن والاستقرار.

ومن يتابع الخطاب السياسي الإيراني على مدى سنوات مضت، يدرك أن كل القادة السياسيين الإيرانيين يتفننون، في تصدير وتسويق خطاب قائم على “حسن الجوار” والتعاون وبناء الثقة وإنهاء الأزمات، وغير ذلك، ولكن على النقيض من ذلك نلحظ أن هذا الخط السياسي لا يتطابق مطلقاً مع سلوكيات النظام والقادة أنفسهم، الذين سرعان ما ينقلبون تماما على مواقفهم في حال تعلق الأمر بما يرونه، حتى ولو تعلق بحق من الحقوق السيادية لدول الجوار. بل نجد أن الأذرع الإيرانية الطائفية تمتد لتتدخل في شؤون بعض هذه الدول بتوجيهات وتعليمات من القادة أنفسهم، فيما يرفض هؤلاء لغة ومنطق الحوار في قضايا يدرك القاصي والداني أنها من مسببات التوتر والخلاف في منطقة الخليج العربي.

وكي نترجم هذا الكلام في أمثلة واقعية، نشير إلى مثالين واضحين، فإيران تواصل احتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) وترفض كل الدعوات التي توجهها دولة الإمارات وبقية الدول والمنظمات الدولية كي تستجيب إيران لمطلب الإمارات بشأن تسوية القضية سلمياً، إما من خلال الحوار الجاد المباشر وإما عبر التحكيم الدولي، علماً وأن هذا السبيل يمثل الحل الأرقى والأنجع، بل يعبر عن أكثر ما أنتجته العلاقات الدولية في العصر الحديث تحضراً في التعاطي مع مثل هذه الخلافات والقضايا. هل هناك تفسير لذلك النهج سوى أنها النزعة الاستعلائية التسلطية التي تدرك أنه لا حق قانونيا ولا تاريخيا لإيران في هذه الجزر، وأن فرض الأمر الواقع بالقوة هو العنوان العريض لهذه الممارسات الإيرانية في واحدة من القضايا التي ستبقى عائقا أمام أي جهد يستهدف تحقيق الأمن والاستقرار في الخليج العربي.

ثمة مثال آخر يتعلق بمملكة البحرين وسوريا والعراق واليمن، فهذه الدول تشهد تدخلات إيرانية بمستويات ودرجات متباينة، ولكنها جميعا تدخلات خطرة للغاية تسببت في تحويل دول مثل سوريا واليمن إلى مناطق صراع وأزمات وكوارث للملايين من العرب.

الآن أصبحت لروسيا، بكل ما تمتلك من نفوذ استراتيجي متزايد ومكانة متصاعدة في هيكلية النظام العالمي بعد استئناف أو استعادة دورها العالمي انطلاقا من سوريا، مصالح استراتيجية مؤكدة في منطقة الخليج العربي، سواء مع إيران، وهذه معروفة وقديمة جديدة، أو على الجانب الآخر مع دول مجلس التعاون وبالأخص المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، حيث يلاحظ أن وزير الخارجية الروسي قد ناقش خلال زيارته الأخيرة للإمارات سبل تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية، وآفاق تنفيذ المشاريع المشتركة في مجال المحروقات والطاقة الذرية والفضاء، ومتابعة عمل الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة وشركة مبادلة للاستثمار الإماراتية، اللذين نفذا نحو 40 مشروعا مشتركا بقيمة ملياري دولار واتفقا على زيادة حجم الاستثمار في مشاريع جديدة، حسب ما ورد على لسان لافروف، وبالتالي يصبح البحث عن صيغة لتحقيق أمن واستقرار هذه المنطقة أولوية استراتيجية روسية، ولكن كيف يمكن تحقّق ذلك في ظل التوجهات الإيرانية التي أشرنا إليها؟

الحقيقة أن نظام الملالي في إيران لا يزال يراهن على أفكار قديمة مثل تفكيك منظومة دول مجلس التعاون، والتعامل مع هذه الدول فرادى، كي يواصل هيمنته وتسلّطه على الإقليم، وقد حاول مرارا تحقيق هذا الهدف وفشل، حيث بقيت الكتلة الصلبة للمجلس متماسكة حتى وإن نجح في استقطاب الموقف القطري، وبالتالي فإن مهمة روسيا تبدو صعبة ولكن يمكن تحقيقها شرط توظيف ما لديها من أوراق ضغط قوية وفاعلة ومؤثرة في دفع النظام الإيراني للاستجابة لمتطلبات نزع التوتر وإنهاء الخلافات في منطقة الخليج العربي.