غازي الشعيبي يكتب لـ(اليوم الثامن):

معنى الكرامة في الحياة

خلق الله الإنسان وكرمه على كافة الخلائق التي أوجدها على هذا الكون وميزه بالعقل والفكر, ومن خلالهما سخر له جميع ما تحتويه الأرض من خيرات, لكن بعد أن يستخدم عقله وفكره, ويعرف كيف يستفيد منهما وكيف يتعامل معهما, ومن خلال هذا العقل والفكر عرف الإنسان القدرات والمواهب التي يتمتع بها, وعرف أيضاً ما هو أعمق من ذلك, وهي بعض القيم والمبادئ التي منحت له, فأصبح يناضل من أجلها, لأنه بدأ يدرك أنه لا يمكن أن يعيش على هذه الأرض من دون هذه القيم والمبادئ العظيمة, وهي تعد احترام هذه الروح قبل الجسد, واحترامها قبل أي شيء آخر, ومن دونها لا قيمة الحياة الإنسانية.

وأهم تلك القيم والمبادئ "الكرامة" وهي أعلى مراتب السمو في الحياة, بحيث تعد الكرامة الإنسانية أهم ما تبلور عنه نضال المجتمع الإنساني لانتزاع حقوقه الإنسانية عبر تاريخ طويل من أجل نيلها, بعدما رفض العنصرية والعبودية والاسترقاق والظلم والاستبداد, كما تعد الكرامة الدافع الأول نحو حق تقرير المصير في مواجهة أي احتلال أو استغلال, والكرامة اﻹنسانية قيمة عظيمة يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط بها, فهي هبه من الله سبحانه وتعالى, وتتنامى عند من يحترمون أنفسهم, ولا يغيرها منصب أو مال أو جاه أو سلطة, فكرامة الناس واحدة للفقير والغني أو المسئول والعامل أو للكبير والصغير على حد سواء, ولجميع المجتمعات, وكرامة الإنسان لا تتجزأ ولا يجب أن تهدر, وقد صنعت حضارات وهدمت حضارات بسببها, وكتب التاريخ قصص أبطال ناضلوا من أجل كرامتهم وحريتهم التي طالما آمنوا بها, نثروا السلام والعدل والمساواة, ودثروا كل تكهن وجبروت, ضحوا بأرواحهم في سبيل استعادة هذه الكرامة بعد ما ضاق بهم الظلم والتجني, ومن حق أي مجتمع أن ينال قسطه من تلك القيمة لازمة له, التي لا تفارقه ولا يفارقها تظل لصيقة بادميته لا تنفك عنه طالما أنه محض آدمي, وإذا لم يجاهد الشعب في سبيل كرامته فلا مناص من الاستخفاف به وإهانته, فهما طريقان للحياة لا ثالث لهما, والشعوب هي التي تحدد مصيرها بنضالها ومقاومتها لكل أنواع الإذلال والطغيان.

كما أن قوانين حقوق اﻹنسان المرعية كفلت الحياة والعيش الكريم لكل الناس دون مواربة أو تمييز أو إنتقاص, لذلك تكرس معظم الدساتير في العالم مبدأ احترام الكرامة الإنسانية سواء صراحة أو بشكل ضمني, ومنها الدستور الاتحادي اليمني الجديد "غير ساري المفعول" لعام 2015م وذلك في المادة (48) منه, وهذا يدل على المكانة التي يحتلها هذا المبدأ عالمياً حتى بات يوصف بأنه مبدأ ذو بعد عالمي, لأنه يمثل قيمة عليا في المجتمع يضمنه القانون الطبيعي, وجميع الدساتير والقوانين أقرت للإنسان بمجموعة من الحقوق الأساسية الفردية يمكن ربطها بفكرة الكرامة, ومن أهمها حق الأمن ويقصد به حق الفرد في الحياة في أمان واطمئنان دون رهبة أو خوف, وحق الحرية وعدم جواز القبض عليه أو اعتقاله أو حبسه, وعدم اتخاذ أي تصرف يمس بأمن الفرد الشخصي إلا طبقاًك للقانون, وفي الحدود التي بينها ومع مراعاة الضمانات والإجراءات التي حددها, كما للإنسان الحق في الدفاع عن نفسه إزاء أي تهمة توجه إليه, وأن يعامل باعتباره بريئاً إلى أن تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة, ويعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية, وعدم إلزامه بالشهادة ضد نفسه أو الاعتراف بأنه مذنب, حيث يقع باطلاً كل قول أو اعتراف صدر بإخضاع المتهم إلى الإكراه أو التعذيب, وانتقل التعذيب من دائرة الإباحة الى دائرة التجريم, لذلك فإن صفة التكريم تظل ملازمة للوجود الإنساني, وأي مساس أو أي اعتداء على كرامة الإنسان يعد تعذيباً, وهو مجرم فضلاً عن أنه محرم, فالتعذيب يعد إنكار لكرامة الإنسان الأصيلة, وانتهاك سافر لحقوق الإنسان وهذه هي أساس وعله تجريمه, كما أن كل ما يمس جوهر الإنسان ويمس كرامته وسلامته البدنية والنفسية والروحية وحقوقه المشروعة جريمة لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن, ويعاقب عليها كل من يمارسها لمخالفتها حقوق الإنسان التي اقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والقوانين الوضعية الوطنية.

وما يدمر أي مجتمع هو حالة الصراع التي يعيشها أفراده, بين الحريات والحقوق, وبين التسلط والظلم, تجعل أفراده في حالة عداء دائم, أو متذمرين كارهين, من شعورهم بالقمع والتظلم, من هنا تولد شرارة العصيان والتمرد والثورات للبحث حقوقهم واستعادة كرامتهم, من أيادي الطغاة والظلمه المتسلطين المستبدين, وفي ظل هذه الوحشية التي تعددت صورها من الظلم أو العدوان والتجني, أو التشهير والقذف, أو السلطة والتسلط على الآخرين من دون وجه حق, هنا يدق جرس الخطر لما سيولد من فوضى ومظلومية وعدوانية متبادلة بين الأفراد, وكل ما كان صاحب تلك الصورة البشعة له نفوذ وتجبر, كان تأثيره - للأسف - أكبر وأعمق في فكر البشرية, خصوصاً من لا يملك التفكير, الذي تعود على التبعية والتلقين, فأصبح الخطر والجهل مضاعفاً هنا, وهذا ما يعيق أي تقدم مجتمعي.

وتجدر الاشارة إلى أن الكرامة التي أقصد إلى إثارة الانتباه إليها هنا, ليست تلك الكرامة التي يربطها البعض برغد العيش وهناء البال, والتي يحققها التمتع بأزاهير الحياة من مطالب دنيئة ورخيصة, إنما الكرامة التي أقصدها هي معطى فطري جاء مع الإنسان إلى هذه الحياة ولصيقة به, والعالم لا ينشئها ويصنعها أو يمنحها, بل يقر ويعترف بها فقط, فهي أصيلة تخلق معه منذ الأزل, وهي متساوية عند كل الناس والأجناس والشعوب والمجتمعات وهي الأساس الذي تبنى عليه كل الحقوق اللاحقة, وليس لأحد أن يمن بها على أحد, فالتكريم ثابت في حق الإنسان قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء,70),  وهو "ملكية " له لا يحق له أن يتنازل عنها أو يفرط بها, ومن فرط فيها ظل الطريق, وسار على درب الذل والإهانة, وتسبب في "تجريء" غيره عليه, لذلك لا أعد الكرامة "مطلباً" بالمفهوم التقليدي للكلمة, لأنه لا أحد قادر أن يمنحها لك, ولكنها "ملك" لك ومن فرط فيها, أهان نفسه, وأوردها مهالك الاستغلال, والإهانة, والعبودية, أن الثورات التي تقوم من أجل الكرامة هي ثورات عادله تبحث عن الحكم العادل الذي يحترم حقوق الإنسان وقدرة الأفراد على تقرير مصيرهم واختيار نمط الحياة الذي يريدون, وعليه يجب الاعتراف بالشعوب التي تناضل من أجل تحقيق مصيرها واستعادة كرامتها المسلوبه من قبل الاشرار المتهكمين والطغاة المتجبرين, وكذا الوقوف إلى جانب الشعوب والأفراد الذي قيدة وسلبة حقوقهم وحريتهم وكرامتهم, من أجل ينالوا العيش الكريم دون استبداد أو ظلم أو إنتقاص في حقوقهم وحريتهم وكرامتهم المشروعة.