علي الصراف يكتب:
قبل إعدام أبوبكر البغدادي
الاقتداء بـ”دول العالم المتحضرة” مفيد دائما. على الأقل لأنه يجعلنا نشعر ولو من باب التقليد، بأننا متحضرون، ولكنه مفيد أيضا لكي يفهم “المتحضرون” أنفسهم بأنهم لا يستطيعون لعب اللعبة بمفردهم، وأن هناك من يمكنه أن يقتفي أثرهم، فيعرقل الإجراء الطبيعي للعدالة.
كاميرون ماندر، قاضي المحكمة العليا في نيوزيلندا، قرر إرسال مرتكب مجزرة كرايست تشريش للفحص، من أجل أن يتيقن أنه ليس مجنونا. وقال إنه ليس مطلوبا منه أن يعترف بأي ذنب، ولا أن يقف أمام المحكمة أصلا. فإذا اتضح أنه مجنون، فإن الإجراء القانوني سوف يلزم السلطات بمعالجته، لا وضعه خلف القضبان. أسر الضحايا الخمسين الذين قتلوا في المجزرة هي مَنْ سوف توضع خلف قضبان الأسى إلى الأبد.
على هذا الأساس القانوني السليم، ثمة ما يبرر وقف أعمال الإعدام التي تنتظر الآلاف من الدواعش. فهؤلاء، وإن ارتكبوا جرائم مشهودة، إلا أنهم ربما كانوا مجانين أيضا. وهم بصفتهم هذه لا يتوجب أن يقفوا أمام المحكمة، ولا أن يواجهوا السؤال عما إذا كانوا مذنبين، وذلك حتى يتم فحصهم من قبل هيئات طبية مختصة. فإذا ما وجدت الحكومات التي تُصدر الأحكام الفورية، أن هيئاتها الطبية لا تملك التأهيل الكافي لإجراء ذلك الفحص، فربما يكون من الواجب إرسالهم إلى نيوزيلندا إلى المصحة التي يُفحص فيها إرهابي مجزرة كرايست تشريش.
هناك إرهابيون آخرون، إنما مسلمون هذه المرة، يواجهون المحاكم في فرنسا وبلجيكا. ولو كانت قيم التحضر متساوية، فيحسن هنا أيضا، إخضاعهم للفحص الطبي قبل محاكمتهم. وعندما تحين الفرصة لمحاكمة أبوبكر البغدادي بعد إلقاء القبض عليه، فإن “التحضر” سوف يقتضي اتخاذ إجراء مماثل قبل إطلاق النار على رأسه.
والحقيقة، فإنهم مجانين بفحص أو من دونه. فالمرء لا يقتل حشدا من البشر إلا إذا كان مصابا بلوثة عقلية ما تجعله مصابا بنوع قصي من الهستيريا. هذه اللوثة قد لا يسهل فحصها ما لم نذهب إلى النظر في ما إذا كان هناك خلل ما في الجينات، يمكنه أن يدل المختصين على هذه النوعية من البشر.
لئن كان لدينا الآلاف من الإرهابيين الذين ينتظرون المحاكمة، فمن المفيد، لأغراض التقليد على الأقل، أن نعد لهم جوازات السفر إلى نيوزيلندا، بدلا من أن نعد لهم حبال المشانق
يمكن لهذا المستوى من الفحوص أن يدلنا على ما إذا كان هناك “تأهيل” بيولوجي يؤدي إلى خلل في الجينات يجعل الإنسان قادرا على ارتكاب جرائم وحشية أو أعمال قتل جماعي. ولسوف يكون هذا الفحص عاملا مهما لمعرفة “الإرهابيين المحتملين” حتى قبل أن يرتكبوا جرائمهم. وهذا أمر بوسعه أن يقدم مساهمة أمنية مهمة تخفف أعباء برامج “التحليل” و”العزل” الكمبيوترية، فضلا عن أعمال المراقبة “الحثيثة”.
ومثلما أن فحوص الجينات يمكنها أن تميز الكثير من الصفات، مثل “القابلية للإدمان”، فمن المرجح أن نعثر على متغيرات في الحمض النووي تجعل الاستعداد للقتل أمرا مدفوعا بجنون ما. إذا وصلت النتائج إلى تأكيد صفة “القابلية للقتل”، فإن كل الإرهابيين يجب أن يذهبوا إلى المصحة، وأن يتم علاجهم، وألا يُسألوا ولا بأي صورة من الصور، ما إذا كانوا مذنبين.
لا أريد أن أبدو ناقدا لقرار ماندر، ولا لتحضره الزائد عن اللزوم. فهو اتخذ في الواقع، الإجراء الصحيح. سوى أن هذا الإجراء يجب ألا يقتصر على “إرهابييهم” دون “إرهابيينا”.
هناك شواهد كثيرة، على أي حال، تثبت حتى للأعمى، أن السلطات الغربية، لأسباب تتعلق بنظرتها الخاصة لـ”التحضر”، تسمي مجرمي القتل الجماعي من أصول غربية “مجانين”، وتختار فحصهم قبل محاكمتهم، بينما لا تتردد في إطلاق صفة “الإرهابيين” عليهم إذا كانوا من أصول إسلامية وتصدر الأحكام ضدهم من دون فحوص طبية.
شيء من همجية “التحضر” هي التي تدفع الغربيين إلى ذلك. ثمة لوثة عقلية، قد يمكن للعلم أن يعثر على أثر لها في الجينات، تثبت أن “تفوق العنصر الأبيض” نوع آخر من الجنون، وهو الذي يقف وراء هذا التمييز بين “مجانيننا” و”مجانينهم”. الغرب بثقافته العنصرية، يحسن أن يذهب إلى المصحة لعله يشفى من هذا المرض العصيب.
ولئن كان لدينا الآلاف من الإرهابيين الذين ينتظرون المحاكمة، فمن المفيد، لأغراض التقليد على الأقل، أن نعد لهم جوازات السفر إلى نيوزيلندا، بدلا من أن نعد لهم حبال المشانق.
لا أعرف، ساعتها، ماذا سيقول ماندر. كما لا أعرف ما إذا كان قضاة مهدي نموش في فرنسا، أو صلاح عبدالسلام وسفيان عياري في بلجيكا، سوف يراجعون أحكامهم، للتدقيق في ما إذا كانت على المستوى ذاته من التأهيل.