عدلي صادق يكتب:

في الحال الفلسطينية حكومة تدحض أخرى

شهد الأسبوع المنقضي، تشكيل حكومة فلسطينية في رام الله، رد عليها الممسكون بمقاليد الأمور في غزة، بالإعلان عن تشكيلة حكومية تدحضها افتراضاً، وإن كان الدحض الفعلي الذي ترجوه الحكومتان كل منهما للأخرى، غير متاح لأي منهما. فلا طريق مفتوحة، لأي منهما، لإسقاط الأخرى أو للتوافق على حكومة انتقالية تذهب بالفلسطينيين إلى انتخابات عامة، تُعيد للشعب الفلسطيني وحدة كيانه السياسي، ومؤسساته الدستورية، وتفتح طريق التوافق على استراتيجية عمل وطني واحدة، في ظل ما يتهدد الفلسطينيين ويتهدد قضيتهم من مخاطر مصيرية.

ما حدث في الأيام القليلة الماضية، جرى- للأسف- في الاتجاه المعاكس للمفترض والمرتجى والعقلاني، إذ تصرف كلٌ من طرفي الخصومة، باعتباره الذي يمتلك ناصية الصواب والرشاد، وأن عليه أن يستجمع كل عناصر قوته لإجبار الطرف الآخر على تقبل شروطه ومحددات رؤيته لما يُسمى “المصالحة” التي ثبت أن الطرفين لا يريدانها. غير أن فحوى الموقف العام لكل من الطرفين، يبعث على الرثاء لفرط ارتباكه وإحساسه بالانكشاف وبالحرج الشديد أمام نفسه وأمام الشعب الفلسطيني الذي لم يعد يطيق استمرار هذه الحال المزرية، وهو يلاقي أثناءها وبجريرتها كل أنواع الضغوط في الضفة، وكافة أنواع العذابات في غزة.

أسباب الارتباك والاحتقان في حكومة رام الله الرسمية والمعترف بها حسب ما استقرت عليه الأمور منذ أن تأسست السلطة؛ تضغط بقوة وتتسع وتتفاقم حتى داخل الشريحة السياسية التي تستند إليها. ويكفي على هذا الصعيد إلقاء نظرة على المخاض الذي أخرج هذه الحكومة.

فبعد أن طال أمد وزارة عنوانها رامي الحمدالله، أصبح دور هذا الأخير يتنامى في حساب الفرضيات والتوقعات السياسية المستقبلية، لاسيما عندما استغل الحمدالله ضعف حركة فتح وانقسامها وترهلها وهوان أمرها أمام نفسها وأمام الرئاسة، وهو بحكم وظيفته لديه هامش واسع في إدارة الجهاز الحكومي؛ استشعرت مركزية “فتح” الحاجة إلى إعادة الاعتبار لنفسها وألحت عليها بقوة، فكرة ما يُسمى “الحكومة الفتحاوية”. ولأنها “مركزية” ضعيفة لا تقوى على بدء محاولة إعادة الاعتبار لنفسها بوقف تفرد رئيس السلطة وهيمنته على الوزارات الرئيسة، فقد جعلت إطاحة الحمدالله أمراً ذا أولوية.

عندئذٍ توافقت هذه اللجنة على تسمية د. محمد أشتية رئيساً للحكومة، على أن تصبح الوزارة شأناً تقوم عليه قيادة “فتح” الموالية لمحمود عباس، فتعلو مكانتها الأدبية وتتواصل من خلال الحكومة مع المجتمع، ويتحسن الأداء. وتصرف أشتية في بدايات تكليفه، كما لو أنه سيُحدث تغييراً وإصلاحاً هيكلياً ويعبر بحركته وبالحكومة إلى مرحلة جديدة. وكان السؤال: ما الذي سيتغير إن ظلت وزارات المالية والخارجية والأوقاف والعدل بيد الرئيس؟ وسرعان ما تبخرت الآمال في أن يتغير شيء، وأدرك المكلف بالتشكيل، أن من يريدهم عباس أن يبقوا، لن يستطيع تغييرهم، حتى ولو سلخوا من السنين في مواقعهم بقدر ما سلخ الرئيس نفسه. فالأمر هنا يشبه ما حدث في الجزائر والسودان مع فارق في نقطتين، الأولى أن في البلدين قوات مسلحة، أي مؤسسة تحسم ولا تنازعها قوة في البلاد، أما في فلسطين، فالقوة أمنية، وللاحتلال نفسه حق الاعتراض على حركتها وتحديد وجهتها. أما النقطة الثانية فهي أن في السودان والجزائر، يتطابق الدور مع التوصيف الوظيفي، أما في فلسطين، فهناك أدوار تضاهي التوصيفات الوظيفية وتتفوق عليها. فلا يختلف اثنان في الضفة، على أن دور الرجل الذي يشغل منصب قاضي القضاة ومستشار الرئيس للشؤون الدينية، وهو ليس من حركة فتح؛ يتفوق في الدور على رئيس الحكومة وعلى نائب رئيس حركة فتح، وعلى أعضائها جميعاً إن عددناهم في الحسبة!

مع إدراك المكلف بتشكيل الحكومة أن التغيير الجوهري لن يتاح له إن كان راغباً فيه حقاً؛ اكتفى الرجل بموقع رئاسة الحكومة، وأعلن التشكيل، وتبدى الارتباك من لحظة أداء اليمين أمام الرئيس، إذ تُلي نص اليمين ناقصاً فقرة أساسية من صيغته، ولما لاحظ القوم نقص الفقرة، أعيدت عملية أداء القسم في اليوم التالي!

على الجانب الآخر، سارعت حماس إلى تشكيل حكومتها، بملمحين يشبهان أسلوب الأحزاب الأيديولوجية عندما تحكم، سواء كانت إسلاموية أو قومية بعثية أو شيوعية. فالتسميات أو الحقائب، تُعطى للصغار، ويكون من وراء هؤلاء، ما يشبه مصلحة تشخيص النظام في إيران، والمرشد الأعلى، لأن “الهوامير” والرؤوس الراجحة والكبيرة، مختزنة الحكاية في رؤوسها، لا تدس أيديها في التفاصيل الصغيرة حتى ولو كانت أساسية بالنسبة لحياة الناس. ففي مثل هذه الأنظمة، تُرمى أجهزة الدولة في سفح السلطة الحقيقية، لذا خرجت التشكيلة الحكومية الحمساوية، بصيغة المواربة، وفيها أن تباشر عناصر موالية وطائعة، المسؤوليات اليومية الوزارية دون تسمياتها، أي بالصيغة الهجينة التي تُعرض بشكل لجنة إدارية، رئيسها يوقع بصفته مديراً عاماً لها، أما المرجعية فهي مسكوت عنها لكنها معلومة. فهناك أدوار تعففت عن الوظائف دون أن تفارقها. ثم إن المواربة في مقصدها السياسي، مطلوبة للإيحاء باستنكاف الجماعة عن القول إن لديها تشكيلا حكوميا يدحض تشكيلاً آخر. فالمسألة “ببراءة”- كما يٌراد القول- هي ملء فراغ أوقعه في غزة الطرف الآخر، هكذا هو السجال الذي برع فيه طرفا الخصومة!

في هذا الخضم، أنهى الفلسطينيون أسبوعهم على أمرين محبطين، لا يبشران باقتراب ساعة فرج، فالقطيعة تتمأسس، والانسداد في السياسة الداخلية يزداد انسداداً. تقوم حكومة وتدحضها أخرى!