فاروق يوسف يكتب:

لهم حصة في العذاب

سيكون من الاجحاف القول إن أحدا في تونس لا يفكر في الالتفات الى الوراء من اجل الاعتذار من محمد البوعزيزي الشاب الذي احرق نفسه احتجاجا على الأوضاع المعيشية السيئة التي كان يعيشها.

فتلك الأوضاع صارت أسوأ بعد الثورة التي اشعلها حريقه وكانت سببا في اندلاع ثورات ما سمي بـ"الربيع العربي" تلك الفوضى الهائلة التي التهمت مجتمعات واسقطت عروشا وفتحت الباب لتدخلات دولية، لم يكن أحد يتوقع وقوعها في عصر أفول الاستعمار.

"كان البو عزيزي على حق في احتجاجه غير انه ما كان عليه أن يحرق نفسه. لو أنه عرف أن السياسيين سيعبثون برماده في تمارينهم العبثية على الاحتيال لما أقدم على فعلته" بقول لي أحد المعتذرين بإشفاق شديد.

"لقد غير مسيرة التاريخ إذا لم نقل إنه صنع تاريخا." أقول وأعرف أن كلاما تجريديا لا ينفع في اقناع حشود من المضربين عن العمل في بلد، صارت الاضرابات فيه هوسا يوميا كما لو أن المواطنين صاروا يشعرون بالخلل إذا لم يقع اضراب جديد.

يعرف المضربون أنهم لن يغيروا شيئا، غير أنهم يصرون على أن تكون لهم حصتهم في ذلك الهوس اليومي. فمَن يملك القدرة على التغيير وضع ارادته في المكان الخطأ. ذلك المكان الذي يعني الذهاب إليه شيئا واحدا وهو البقاء في السلطة أو استلامها بأسلوب يشبه الاغتصاب. ذلك لأن كل شيء يتم عن طريق التضليل ورش العطور الزائفة وإطلاق الوعود الدنيوية والآخروية على حد سواء. وبين هذا وذاك فإن الحروب كلها تتم خارج الحلبة، من غير الالتزام بأية قوانين أو أعراف سياسية.

سيُقال "السياسة تسمح بكل شيء" وهو قول لا يلتفت إليه التونسيون الذين تزداد أوضاعهم المعيشية سوءا يوما بعد يوم. ذلك لأنهم غير معنيين بمتابعة مراحل وأشكال تلك الحروب التي وصلت إلى الدرجة التي صار الابن فيها ينافس الاب في السباق إلى الكرسي.

"شيء يدعو الى القرف" يقول لي مَن خص نفسه بشيء من العذاب اليومي وهو يتابع تطورات الوضع السياسي داخل دائرة الحكم ومعارضيه الذين تكاثروا بطريقة، لم يعد ممكنا التفريق من خلالها بين صوت وآخر، كما لو أننا عدنا إلى زمن المسيرات الكبرى التي تختلط فيها الأصوات.

أشد ما يزعج التونسيين ويخيفهم ن يجدوا أأنفسهم مضطرين إلى الاعتراف بأن البو عزيزي كان على خطأ في احتجاجه. يومها سيلتفت العرب إليهم باستياء وغضب وهم يندبون حظهم العاثر ويتساءلون "ما الذي فعلتم بنا بربيعكم الكئيب؟"

الانتخابات الرئاسية قادمة والصراع مستعر. غير أن افتضاح الكذبة قد يؤدي إلى أن يسحب الشعب ثقته بها، بعد أن تحول السياسيون إلى دمى تجهل مَن يحركها. هل هي المنافع الشخصية والحزبية أم صندوق النقد الدولي أم دول، فشلت غير انها لا تزال تحاول أن تدجن الصوت التونسي المستقل والحر، المتمرد بشغب، المتطلع بأناقة إلى حياة مدنية حقيقية؟

لقد تعب الشعب التونسي من الاستعراض الذي تقوم به مختلف التيارات السياسية التي تسعى إلى البقاء في دائرة الضوء، بالرغم من تعثرها في اجراء تغيير ملموس على مستوى سبل العيش.

لم يعد لدى التونسيين فكرة عن الغد. صار الحاضر يقلقهم أكثر من أي شيء آخر. كلهم بطريقة أو بأخرى تحولوا إلى بو عزيزي جديد، مستعد للقيام بأعمال خارقة من أجل أن ينهي فصول مسرحية، هي الأكثر رثاثة في حياته التي تسلقت سلم "إذا الشعب يوما أراد الحياة".

فالقدر الذي استجاب لإرادتهم جاء مصنوعا بطريقة معلبة كما لو أنه كان جاهزا لدحر أمنياتهم.