محمد أبوالفضل يكتب:

ماء في كف شحاذ

دفعت الظروف الاقتصادية الصعبة الكثيرين إلى اختيار الشحاذة سبيلا للرزق. وهي مهنة بدأ يحترفها قطاع كبير من المواطنين في دول عربية مختلفة. من يمرون بضائقة مالية، ومن يريدون المزيد بطريقة سهلة.

جرني تعاطفي مع هؤلاء أحيانا إلى الوقوع في فخ أحدهم مؤخرا. وجدني أقف بجوار سيارتي قريبا من مكتب “العرب” بحي المهندسين في القاهرة. قرأ ملامحي سريعا. توسم أنه وجد صيدا ثمينا. اقترب وهو يقرأ بعض الأدعية الدينية. جميعها تحض على الرزق الحلال وتبشرني بطول العمر، وكثرة المال، وصلاح حال الأولاد.

لم أمهله لتكرار ما يردده. وضعت يدي في جيبي ومنحته عشرة جنيهات. رفض قبولها بإصرار، مؤكدا بحركة بهلوانية أنه ليس شحاذا. فقد اختير ليبلغني بالخير الوفير، وكأنه عرف أنني أنتظر خبرا سارا.

دفعتني طريقته المبتكرة إلى عدم التسرع في نهره والصبر عليه، لأنه كان مختلفا عمن أقابلهم في بعض شوارع مصر، وربما لأن ما قاله كان له وقع إنساني مؤثر.

بدأ يتمادى في أدعيته ويعلو صوته، وفجأة طلب أن أخرج كل أموالي. رفضت بشدة ومنحته مبلغا أكبر من الأول، وامتنع عن تقبله، وصمم على تقديم ما معي من نقود.

أخرجت له ورقة بمئتي جنيه، وضعتها في يده، وأخذ يردد أدعية جديدة تبشرني بالمال الكثير. وفجأة طلب أن أمد له كف يدي، وإذ بماء يذهلني وينساب على راحتي من كف يده.

خدعتني حيلته أو أعجبتني، وسلبت إرادتي فجأة، وجعلتني أستجيب إلى إلحاحه وتقديم المزيد من الأموال. كرر الفعل ذاته، وقرأ أدعية جديدة تركز هذه المرة على فضل المتبرعين للفقراء والمساكين ومكانتهم في الدنيا والآخرة، وانسابت المياه بصورة أكثر على راحة يدي.

وقبل أن أهمّ بطلب استرداد أموالي من يده المبتلة، عاجلني بترديد اسمي ومهنتي، وسيكون لي شأن كبير في الصحافة. أذهلني أن يذكر الاسم والتخصص، ولم أنتبه إلى أن الشحاذ الذكي لمح في المقعد الخلفي لسيارتي ورقة مكتوب عليها اسمي وحرفتي.

كادت حيلته تخرسني وتنطلي عليّ بحجة التبرع والانصراف، لو أنه اكتفى بما منحته من أموال، لكنه تمسك بضرورة استخراج جميع أموالي من جيبي ودون نقصان.

بدأت ملامحي تزداد حدة ورفضا لما يفعله، وكأنني بدأت باسترداد إرادتي التي خطفها الشحاذ لدقائق معدودة، خشيت خلالها من تسليمه مفتاح سيارتي وأذهب في حال سبيلي.

جذبي للأموال من راحة يده بعنف، كشف سر الصنبور الذي يخرج منه الماء، فقد كان اللص يضع قارورة صغيرة من البلاستيك في منتصف ذراعه اليمني ووضع في مقدمتها أنبوبا رفيعا، وكلما ضغط في غفلة على القارورة انساب الماء من الأنبوب ومنه إلى كفي.

وقبل أن يعلو صوتي ويتجمع المارة، غافلني النصاب وظل يركض بعيدا، ومعه ما سرقه من أموال، ولم ينتبه وقتها إلى سقوط القارورة والأنبوب وما تبقى من ماء على الأرض.