محمد أبوالفضل يكتب:
الوقت الأميركي المناسب لإطلاق صفقة القرن
سمعنا عن عناوين عريضة للصفقة الشبح ولم نقرأ تفاصيلها، وبدأت تنفذ بعض بنودها على الأرض ولم يتم الإعلان عنها رسميا، ودار نقاش وأخذ وشد وجذب حولها ولا تزال الأطراف العربية تتحسب من عواقبها.
من المرات النادرة التي تستبق فيها الجامعة العربية التعامل مع الكارثة قبل إعلانها رسميا، حيث عقد وزراء الخارجية اجتماعا طارئا، الأحد، واستمع إلى كلمة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن هواجسه الكبيرة من الصفقة.
كالعادة لم يخرج الاجتماع بخطوات عملية محددة، واكتفى بصياغات دبلوماسية مطاطة يستطيع أن يجد فيها الرافضون والمتحفظون ما يشفي غليلهما، دون الحض على مواجهة سياسية حاسمة مع الإدارة الأميركية، صاحبة الصفقة، ومع منح فرصة لتحميل إسرائيل الجزء الأعظم من مؤامرة مشروع التسوية الجديد، وهي الحلقة التي اعتادت غالبية الدول العربية توجيه القذائف السهلة نحوها.
اللغم أو الطبخة أو النكبة، كلمات سوداوية تعكس الرؤية السياسية للخطوة الأميركية المنتظرة، لذلك كان اختيار الأجواء المناسبة لطرحها مسألة مهمة، ما يفسر التردد والارتباك والغموض الذي ظهرت معالمه الأشهر الماضية. وبعد فترة من جس النبض وإرسال إشارات في اتجاهات متناقضة ومتعددة وتلقّي إجابات صريحة وضمنية، باتت الإدارة الأميركية على بعد أمتار من الإعلان عن الصفقة الموعودة.
أدركت واشنطن مبكرا حجم الخطورة التي حملها الاستعجال في التلميح إليها، وتسريب معلومات مبتورة عنها، وقاسية أحيانا ليخرج كل طرف بتكهناته وتخميناته، ومنهما يمكن تحديد البوصلة وقياس نسبة القبول والرفض، وكشف طاقم الترويج لها، جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات ورفقاؤهما، عن جهل مزمن بالمنطقة وعدم دراية بطبيعة الأزمة وتعقيداتها الداخلية والخارجية والثوابت الدينية والتاريخية، وهي أول الملاحظات التي وجدها كل من تعاملوا معهما عن قرب.
تقترب الإدارة الأميركية من الوصول إلى الاطمئنان لعدم المقاومة لصفقتها، بالتبديل والتوفيق مع قوى دولية متباينة، والتشجيع والضغوط مع قوى إقليمية مختلفة، والإمعان في إنهاك القوى الفلسطينية الأمر الذي يمهد الطريق أمام الحديث عن قرب الإفصاح عن مكونات صفقة القرن
استفادت إدارة الرئيس دونالد ترامب كثيرا من ردود الأفعال السلبية التي تلقتها عندما تطرق البعض لملفات مؤلمة، كي تضمن طرح الصفقة في التوقيت والصورة المناسبين وضمان تمريرها بأقل قدر من الغضب. ما يؤكد أن الفوضى السياسية قد تكون خلاقة هذه المرة في التحركات الأميركية، عن قصد أو دونه. في الحالتين استفادت من دروس الماضي لتجبر الأطراف المعنية على ابتلاع الصفقة وتوابعها.
في الأمور العادية تتم عملية التسوية في بيئة إيجابية، بمعنى الحرص على التهيئة السياسية من خلال حوارات تسمح بالتعديل والحذف والإضافة لدواعي التمرير والتنفيذ، بينما في الحالة الأميركية الجديدة تتم تهيئة البيئة بصورة معاكسة، أي تغذية الخلافات والتوترات والصراعات وعدم السماح بارتفاع درجة الهدوء عن الحد المسموح، أو تمكين الطرف الضعيف من امتلاك مستوى مرتفع من المقومات المادية والمعنوية تسمح له بالرفض والاعتراض.
يبدو أن الإدارة الأميركية اتبعت شيئا من هذا القبيل الفترة الماضية، وجردت الطرف الفلسطيني من نسبة كبيرة من أدوات القوة الداخلية، أبرزها تقويض الركائز التي تضخ الدماء في شرايين المواطنين، ونزع أحد أهم مصادر الدعم عندما أعلنت واشنطن سحب تمويلها لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، التي تلعب دورا مهما لتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وغيرها من الإجراءات التي تضعف تمسكه بثوابت قضيته الرئيسية.
تضاف هذه الخطوة إلى أخرى أكثر إثارة وتتعلق بالاعتراف بالقدس المحتلة كعاصمة لإسرائيل، ثم نقل السفارة الأميركية إليها خلال نحو ستة أشهر، عقب فترة سابقة من الممانعات والتحفظات تجاوزت العشرين عاما، وهو ما أكد أن الانحياز تخطى الخجل ويصر أن يكون سافرا.
استفادت إسرائيل من الأجواء الإقليمية القلقة بأشكال مختلفة، ولم تعد هدفا أساسيا أو حتى ثانويا لدى معظم الدول العربية، في السر أو العلن، الأمر الذي أفقد الفلسطينيين سندا معنويا مهما، ظهرت تجلياته في بعض المحكات الحاسمة، في مقدمتها الموقف من معركة القدس التي فتر الحماس العربي لها سريعا، والإعلان الأميركي بضم هضبة الجولان المحتلة إلى إسرائيل، والذي جرى التعامل معه بدبلوماسية الشجب المعتادة.
الأهم أن الولايات المتحدة في عهد ترامب شرعت في رفع الاعتماد على عملية تبادل الإغراءات والحوافز السياسية كرديف للغة الصفقات الاقتصادية التي يجيدها الرئيس الأميركي، الذي استغل الكثير من نقاط الضعف في الجسد العربي.
وبدلا من ممارسة الضغوط التقليدية لتمرير أهدافه لجأ إلى الإغداق في المجاملة الكلامية، أو غض الطرف عن تجاوزات ارتكبتها بعض الأطراف العربية في قضايا مثيرة للحساسية، ربما تكفي المواجهة المفتوحة في إحداها إلى تكبيد هذا الطرف أو ذاك خسائر سياسية باهظة.
نجحت هذه الطريقة إلى حد بعيد في رفع جزء جديد من الغطاء العربي عن الجانب الفلسطيني، الذي فقد الكتلة الرئيسية في قاعدته الداخلية. وكلها عوامل ساهمت في تليين ردات الفعل مع الصفقة الأميركية، فمهما قيل عن مستوى الغضب والرفض والإدانة، لن تستطيع أن تؤثر على المواقف السياسية العربية والإقليمية والدولية، لأن كلا منها مشغول بهمومه أكثر من الوقوف بجوار الشعب الفلسطيني في قضيته العامة. تعمدت التسريبات توسيع وتضييق ملامح الصفقة، وأدخلها البعض في سيناريوهات قاتمة، ووصلت التوقعات إلى حد ترديد قصص عن تبادل أراضي ونقل مواطنين.
وبصرف النظر عن وجود هذه المحددات بين محتويات الصفقة من عدمه فهي فتحت الباب لطرح قضايا في مبادرات قديمة، ما أدى إلى فرملة ردّات فعل بعض الدول خوفا أن يتحول الخيال إلى حقيقة، أو يصبح مجالا للتنغيص السياسي من وقت لآخر، لذلك كان الصمت وعدم المناكفة خيارا آمنا.
تقترب الإدارة الأميركية من الوصول إلى الاطمئنان لعدم المقاومة لصفقتها، بالتبديل والتوفيق مع قوى دولية متباينة، والتشجيع والضغوط مع قوى إقليمية مختلفة، والإمعان في إنهاك القوى الفلسطينية الأمر الذي يمهد الطريق أمام الحديث عن قرب الإفصاح عن مكونات صفقة القرن.
لن يتحول الإعلان إلى نهاية المطاف، ومن الصعوبة أن يحصل التنفيذ الكامل بسهولة، فالقضايا المتشابكة تحتاج دوما إلى أطراف مقتنعة بالتسوية، وقد تكون واشنطن وفرت المناخ الذي يجعل أطرافا مهمة تفكر قهرا في صفقة فاسدة، انطلاقا من حالة الوهن العامة والنزاعات الإقليمية المتفاقمة والمصالح الشخصية المتصاعدة، لكنها لا تضمن عدم الغدر بها، أو مفاجآت اللحظات الأخيرة.
يستمد الشعب الفلسطيني قوته من ضميره الوطني، وعدم استبعاد حدوث يقظة عربيا، لأن كل الأطراف التي رضخت للقبول بالصفقة في اللقاءات الجانبية لم تجرؤ على تبرير قبولها علانية، وتدرك أن هناك شيئا مخيفا سوف يترتب عنها، قد يصطحب معه سلسلة أخرى من التنازلات العربية.
يستمد البعض يقينه من عدم التفاؤل بنجاح الصفقة التي يتبناها ترامب، ليس من منطلق قوته الذاتية بل من أن الرجل يتصرف بفوضوية، وهي مغالطة تضمر نوعا من تخفيف عقدة الشعور بالذنب، لأنه اكتسب قدرا من الخبرة في السلطة جعلته ينضج في اختيار توقيت طرح أفكاره والدفاع عنها دون لجوء إلى خشونة سياسية، بالتالي فبعد الإعلان عن الصفقة قد تكرم الدول أو تهان.