عدلي صادق يكتب:

المغدور الفلسطيني في الزنزانة التركية وخلفية الاتهام

جاءت أصداء تطيير أكذوبة انتحار ضابط الشرطة الفلسطيني المتقاعد، زكي مبارك، الذي احتجزته السلطات الأمنية التركية، مُخيبة لآمال القتلة، وكاشفة لوضاعة المسؤولين الذين يمثلون المرجعية الحقيقية للضابط، وفي الوقت نفسه مثيرة لسخرية المسؤولين في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك سخرية النائب الفلسطيني المقيم فيها، والذي جعلته المخابرات التركية هدفاً لاتهامات متلاحقة، على النحو الذي يحط من مستوى هذه المخابرات أمنياً وسياسياً.

فخلال ساعات قليلة ذاب الثلج وظهر المرج، ولم يتبق من اتهام مزعوم للرجل الشهيد المغدور، سوى اللاتهمة، وهي كونه سافر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بحثاً عن فرصة عمل، وقد أتيحَ له السفر إلى هناك، كما مئات الألوف من العاملين العرب، ولم يُتح له سفر بديل إلى قطر مثلاً.

نقول إن الثلج ذاب وظهر المرج، بأسرع كثيراً من كشف السلطات الأسترالية مصدر المتفجرات المخبأة في مفرمة لحم منزلية دُست في حقيبة كان يحملها إرهابي داعشي، أراد الصعود بها إلى طائرة تابعة لشركة “الاتحاد” الظبيانية في مايو العام 2017. فبعد تحقيق مهني معمق، اتضح أن المفرمة سافرت من تركيا إلى مدينة “سيدني”، ولم يكن سفرها من وراء ظهر المخابرات التركية، وقد نطقت المحكمة الأسترالية على الداعشي بالحكم المؤبد في السجن، في الأول من هذا الشهر.

ليس أسهل من تفكيك الرواية التركية عن انتحار زكي مبارك، بدءاً من العناصر التي تدحض الإدعاء بوجود دوافع الانتحار، فضلاً عن موانعه الدينية بالنسبة لرجل فلسطيني مؤمن، لا ييأس من البحث عن مصدر رزق شريف لأولاده. فكيف ولماذا ينتحر رجل موقوف، أبلغه المحامي أن الإفراج عنه بات وشيكاً لسخافة الاتهام الموجه له ولصديقه سامر شعبان؟

غير أن العناصر المتعلقة بحيثيات القضية، تخلو تماماً من أي قرينة حقيقية لعلاقة المغدور وصديقه الموقوف، بالنائب محمد دحلان، بل إن كل القرائن تؤكد على أن الرجل موصول بالسلطات الفلسطينية التي تصرف له راتباً لم يتعرض للقطع بمظنة الصلة بمحمد دحلان، أو بجريرة إشارة استحسان على نبأ منشور على صفحات التواصل كما جرت العادة. هنا، ينهض السؤال: من الذي أوقع السلطات الأمنية التركية في هذا الاتهام العبيط؟ هل هي- مثلاً- العناصر الفلسطينية نفسها، التي تمارس فعل الإيذاء الممنهج ضد مناضلي ومنتسبي الجهاز الحكومي الفلسطيني من سكان قطاع غزة، وحتى الموالين منهم لرئيس السلطة محمود عباس؟

وهناك سؤال آخر متفرع ومنطقي، لماذا وعلى ماذا يتجسس مواطنان فلسطينيان في تركيا، وكيف يستحوذان على الأسرار العسكرية، وبأي وسائل استطلاع؟ فتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وإسرائيل شقيقة الحلف الذي يتواصل معها، والافتراض التركي “الإخواني” يقوم على أن مناهضي محور رجب طيب أردوغان، ومن بينهم محمد دحلان، أصدقاء الإمبريالية، فهل تتجسس الإمبريالية على نفسها؟ وإن كان التجسس وارداً بحكم خصوصية الخلاف الإماراتي – التركي، فما فائدة التجسس العسكري، إن كانت الإمارات لا ولن تفكر ولن تستطيع اجتياح تركيا، ولا يعدو الخلاف بين أبوظبي وأنقرة، عن كونه سياسيا؟ فعلى أي نوع من الجنون، يتأسس مثل هذا الافتراض، وما هي فائدة هذه الخفة في الإدعاءات المتلاحقة؟

يصح هنا الاستطراد في التساؤل: إن كان مثل هذا الجنون وارداً، هل يجري التجسس بعناصر وافدة إلى إسطنبول، تحتاج إلى عام كامل لكي تتعرف على ساحة “تقسيم”، أم بعناصر راسخة في الإقامة وكامنة في نسيج الدولة؟ فإن كان محمد دحلان، حسب الهذيْ التركي الأردوغاني، قد أغوى 22 جنرالاً تركياً مدججاً بالنياشين، ونحو عشرين ألف موظف مدني، والآلاف من الشيوخ والفقهاء لكي ينقلبوا على أردوغان؛ هل من المنطقي أن يرسل محمد دحلان نفسه شخصين حائرين يبحثان عن مصدر رزق، لتأدية المهمة؟ وطالما أن له مثل هذا الباع الطويل، هل يباشر هو بنفسه الاتصال بعناصر التجسس؟ أي تخريف هذا وأي استهبال لعقول البشر؟

إن منهجية من هذا المستوى، لن تفلت من حكم التاريخ. فلا يتوهمن أحد أن مشروعات التنمية والتطوير للمرافق السياحية، وهي سياقات قديمة ومعلومة ومطروقة في كل المراحل، يضطلع بها الشعب التركي المثابر، ستحمي سلطة سياسية تخوض في ألعاب الخصومة بمنطق الصغار. فالحزب الحاكم في تركيا يتراجع بسبب هذه الخفة، ولولا إجادته في اختيار تحالفاته في الانتخابات العامة الأخيرة، وتحسسه المسبق لتراجع مكانته، لما استطاع الاستمرار، وقد أكدت الانتخابات البلدية على هذه الحقيقة، ودلت على أن الأمور تتراجع بالنسبة لـ”حزب العدالة والتنمية”، وستثبت الأيام المقبلة، صحة ما نقول.

إن صمت المرجعية الفلسطينية الوحيدة للمغدور زكي مبارك، على هذه الجريمة، يندى له الجبين، لاسيما وأن لدى السفير الفلسطيني لدى تركيا ما يكفي لتكذيب رواية الانتحار ومزاعم ارتباط ضابط الشرطة الفلسطيني المتقاعد الراحل، بالنائب محمد دحلان. ومن المعلوم أن نظرة المرجعية المشار إليها، إلى جميع منتسبي الجهاز الحكومي من سكان غزة، تعتبرهم إما مع محمد دحلان على نحو مؤكد، أو يحتمل أن يكونوا معه. ومن هنا جاء الاستهتار بما حدث للمرحوم زكي مبارك. ونقول بصراحة، إن محمد دحلان، بحكم طبيعة تجربته، لا يتنصل من إنسان يعمل معه مهما كانت الظروف والتبعات، والرجل لا علاقة له بالمواطنيْن زكي مبارك وسامر شعبان، تزيد عن كونهما من إخوته الفلسطينيين.

أما الفعل التركي، فإنه يُذكر بالشهداء الذين شنقهم المستبد التركي في بيروت ودمشق،على عدة وجبات بين العامين 1915 و1917 بعد أن لفق لهم المستبدون الأتراك اتهامات تجسس، ذلك علماً بأن الذين لفقوا الاتهامات ونصبوا المشانق، كانوا قومجيين ملحدين أتراكاً، متحالفين مع الحركة الصهيونية، نفذوا انقلاب 1908 وأطاحوا بالسلطان عبدالحميد.

كنا نتمنى أن يترحم عليهم “الإخوان” والسلطان الجديد، لأنهم كانوا محض استقلاليين عرب، ومن بينهم فقهاء وكُتاب ورواد نهضة علمية، من أمثال الشهيد البيروتي محمد محمصاني الكاتب الحاصل على دكتوراه في القانون من جامعة السوربون. لقد عُلّق الأحرار على المشانق، مثلما عُلق زكي مبارك، ثم زعم القتلة إنه علّق نفسه على باب مرحاض زنزانته قبل أن يتضح أن المرحاض بلا باب، والأكذوبة بلا مسارب للخروج.