محمد أبوالفضل يكتب:

الترتيبات المتسرّعة في السودان قد تنتهي بطوفان

لا أعلم هل يدرك الإخوة في السودان أن تذبذب الأوضاع الحالية يمكن أن يؤدي إلى طوفان سياسي في البلاد أم لا؟ فالتطورات التي وصلت إليها الحوارات المتقطّعة بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف الحرية والتغيير دخلت في دهاليز وعرة، ويتعامل معها الكثيرون على أنها معادلة صفرية وليست تكاملية، ومكاسب كل طرف تعني خسائر للطرف الآخر.

أدّت الأجواء العامة التي تجري فيها المناقشات، وما لحق بها من تسخين متعمّد من قبل بعض الدوائر السياسية، إلى الوصول إلى نقطة غامضة من الانسداد، ومحاولة النفخ فيها بشدة لإضرام المزيد من النيران، وكأن المجلس الانتقالي جاء من سطح القمر ولم يكن موجودا على الأرض، ولم يلعب دورا مهمّا في حسم الانتصار لإرادة المعتصمين.

حملت الوثيقة التي طرحها تحالف الحرية والتغيير مؤخرا الكثير من العلامات الإيجابية التي تقود إلى تكوين دولة مدنية تتحاشى عيوب النظام السابق، لكن الصيغة التي حملتها بشأن الصلاحيات الموكلة لكل طرف، ومنحت دورا طاغيا للقوى المدنية، قد تفتح الأبواب للنقمة عليها، في ظل التململ الذي ينتاب شريحة كبيرة في المؤسسة العسكرية من محاولة تقليص دورها والمساس بهيبتها، في وقت تتربّص فيه فلول الحركة الإسلامية لتخريب إجراءات المرحلة الانتقالية.

ناهيك عن تهميش الحركات المسلحة، وهي طرف رئيسي في المعادلة السودانية، لم تظهر التجلّيات الكاملة لمهامها في التوازنات الحالية، بما يضاعف من حساسية دورها مستقبلا، فرغم تأكيدها وقف العدائيات والمعارك، إلا أن مصيرها السياسي لا يزال محاطا بالغموض.

كان الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القومي، محقا في التحذير من الإمعان في استفزاز الجيش السوداني، وهو ما نبّه إليه أيضا بعض القادة من العسكريين السابقين، لأن الديمقراطية لن تكون هادفة وتحقق أغراضها النبيلة ما لم تصطحب معها العوامل اللازمة لتوفير الأمن والاستقرار وسد الذرائع على الجهات التي تنتظر تفشيل انتفاضة ديسمبر.

لدى السودان ذخيرة من التجارب التي يمكنه الاستفادة منها واستيعاب دروسها. وكما يسعى تحالف الحرية والتغيير إلى تجنّب هيمنة المؤسسة العسكرية وعدم الوقوع في ما يعتبره فخاخا سياسية أصابت مواطني بعض الدول المجاورة، عليه قراءة تاريخ بلاده جيدا كي يبتعد عن تكرارها، لأن ما يدور في العلن والكواليس قد يصطحب معه رياحا عاتية بعد حين.

ما يجري الآن يعيد إلى الأذهان تطورين متشابهين في ظروف تحوّل ثوري ربما تكون مماثلة، فالانتفاضة التي أطاحت بنظام إبراهيم عبود عام 1964 أقامت سلطة مدنية ضعيفة في الخرطوم سقطت عبر انقلاب قاده جعفر النميري عام 1969، والانتفاضة التي تخلّصت من الأخير على يد عبدالرحمن سوار الذهب عام 1985 أعقبها حكم ديمقراطي برئاسة الصادق المهدي لم يعمّر طويلا، حتى جاء انقلاب ما يسمى بـ”ثورة الإنقاذ” عام 1989 والذي وضع عمر حسن البشير في الواجهة.

يتشدد تحالف قوى الحرية والتغيير في التمسك بقيم الدولة المدنية ومعانيها السامية، وهو محق في ذلك، لأنه اكتوى بنيران الهيمنة العسكرية على مقاليد الأمور فترات طويلة منذ الاستقلال، وعلى تقديراته السياسية مراعاة الظروف الراهنة، والتي تفضي إلى حكومة تلبي تطلعات المواطنين العطشى سياسيا، بعد فترة طويلة من القبضة الحديدية إبان عهد البشير، لكن يمكن أن تقود إلى انتكاسة تؤدي إلى انقلاب عسكري دون واجهة مدنية، أو تفتح المجال لعودة رموز الحركة الإسلامية تحت لافتة ديمقراطية، بحكم تنظيمها واحتفاظها بالكثير من المفاتيح التي لها فاعلية في الواقع.

نجح المتظاهرون في الحفاظ على تماسكهم وعدم التفريط في اعتصامهم أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم، لأنه (التماسك) الورقة الحيوية التي يمكن الاعتماد عليها في التفاوض والتأسيس لجمهورية مدنية، وعليه يجب مراعاة أن تحقيق نصر أقل من الطموحات والتطلعات دائما هو أهم بكثير من نصر كامل ومؤقت، فالسودان أمامه فرصة لإعادة بلورة رؤية للمستقبل، لأن المعركة لن تنتهي فصولها مع غلبة أصوات قوى الحرية والتغيير والتعامل مع المجلس الانتقالي على أنه عدو حالي أو محتمل.

يموج السودان بتيارات سياسية وقبلية وطائفية عديدة. وهو “موزاييك” يستلزم قدرا من الوعي المصحوب بالحسم، فالليونة الزائدة تقود إلى الفوضى، والدول تتأسس بموجب عقد اجتماعي يراعي البيئة التي تموج بتحولات كبيرة في الداخل، ولا يتغافل عن المعطيات التي تجري في الخارج وأصبحت تلعب دورا أكثر تأثيرا من ذي قبل.

تعمّد قطاع كبير من السودانيين تصويب السهام إلى المجلس الانتقالي ونجحوا في إجبار قيادات موالية للنظام السابق على الاستقالة، والضغط على محاسبة رموز سياسية وأمنية ارتكبت أخطاء وجرائم في السنوات الماضية، وهو ما يتطلب تماسكا كبيرا في المؤسسات الوطنية لتتمكن من متابعة الملفات والقضايا المتعددة، وتشعّبت بحكم طول الفترة الزمنية التي مكثها البشير ورفاقه في السلطة، حتى أرخت بظلال سلبية على عدد من أقاليم الدولة السودانية، خاصة في الجنوب والغرب.

تحتاج هذه المسألة جهازا كاملا، عسكريا وأمنيا وسياسيا واقتصادية وإداريا، قويا لديه من الخبرات والمقومات ما يمكنه من التعامل مع التراكمات القديمة، والمستجدات المتوقع أن تتزايد في الفترة المقبلة، ما يفرض النظر بموضوعية إلى عملية اقتسام السلطة خلال المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري وقوى المعارضة، والتخلي عن الفوقية والقوالب الجامدة، فلا معنى لانتصار فريق على آخر ما لم يستطع تغيير وجه السودان للأفضل.

يملك كل من المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير تأييدا واسعا في السودان وخارجه، ويجتمع الطرفان حول نقطة محورية، تتعلق بقطع دابر الحركة الإسلامية في الجيش ودواليب الحكم المختلفة، وهي الزاوية التي يمكن العمل عليها بجدية، ولا جدوى إذا تم خروج البشير وأنصاره من الباب (الجيش) ثم قفزوا على السلطة من الشباك (الانتخابات). يجب الاعتراف بأن أتباع الحركة الإسلامية يجيدون العمل تحت الأرض وفوقها، ولديهم واجهات متباينة يتستّرون خلفها، ومن الضروري الانتباه إلى أن جذورهم الممتدة تجعل عملية اجتثاثهم تحتاج إلى صبر وأناة، ولن تكون عبر أدوات أمنية وعسكرية قاسية ومباشرة، بل من خلال طرق قانونية.

القوى السياسية السودانية المتخاصمة نادرا ما تلجأ إلى التصفيات بالأساليب التقليدية، والحروب التي تعجّ بها بعض الأقاليم أخذت طابعا قبليا وطائفيا كي تنتشر وتتوسع وتتغول، وتم اللجوء إلى العنف بعد فترة من الإقصاء والتهميش، أدت إلى انفصال إقليم جنوب السودان، وهناك أقاليم مرشحة للمصير نفسه ما لم ترتفع الرؤية السياسية إلى مستوى التحديات الاستراتيجية.

يحتاج السودان إلى تصوّرات خلاقة وسياسات متينة تفتح المجال للوصول إلى تدشين دولة مدنية قوية، وهو ما يجب الالتفات إليه من جانب اللجان الممثلة للمجلس الانتقالي والمعارضة، لأن الاستغراق في مناقشات طويلة حول المجالس السيادية والوزارات وتقويض دور الجيش وعدد ممثلي كل طرف وحصته والصوت المعطل والمرجح، من الملامح التي تدخل البلاد في تفاصيل قد تؤدي إلى مشكلات أعمق مما كانت عليه أيام البشير.

يمتاز السودانيون عن الكثير من شعوب المنطقة بأن لديهم نخبة كبيرة من المثقفين ويملكون مروحة تجعلهم أكثر قدرة على التسامح وفهم الأحداث والتعامل معها، لكن يبدو أن هذه الكثافة ربما تتحول إلى عامل شد بدلا من أن تصبح عامل جذب، فقد تناثرت الفتاوى السياسية بما يعطّل التفاهم حول رؤية رشيدة توفر الخروج الآمن للبلاد من الأزمة الحالية.

مضى نحو الشهر على عزل عمر حسن البشير ولا يزال الدوران مستمرا في حلقة تتسع حينا وتضيق في غالبية الأحيان، وما إن تقترب المسافات بين المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير للتفاهم حول قواسم مشتركة إلا وتظهر أزمة تؤدي للعودة إلى المربع الأول، لأن الثقة مهزوزة، والشكوك تسيطر على تصرفات البعض، ومحاولات إرباك المشهد السوداني من قبل بعض الأطراف لن تتوقف.

تخشى دوائر متابعة أن تزداد الأمور تعقيدا ويدخل السودان نفقا طويلا من حوارات الطرشان، فكل طرف يراهن على طول نفس الآخر ومدى قدرته على تحمّل الضغوط، بالتالي تحتاج الأزمة إلى إبداعات تتجاوز الحلول النمطية، وتسويات تهيّئ البلاد لمرحلة أكثر هدوءا، لأن الطبخة السياسية المؤقتة أو غير الناضجة قد يتبعها طوفان، بينما الترتيبات الشاملة الدائمة يمكن أن يعقبها أمن واستقرار في السودان.