النموذج الليبي الذي يتم بناؤه اليوم هو نموذج بالغ الأهمية في صراعات المحاور في المنطقة وفي المصالح الدولية فيها، وحين يتم تعميمه في مناطق الأزمات الكبرى في المنطقة سيكون فاعلاً ومؤثراً.
في السياسة، من الجيد أحياناً أن تتراجع وتترك القيادة لمن هو أقدر وأقوى، وهو ما جرى في أحد أهم الملفات في المنطقة، وهو ملف النظام الإيراني الداعم للإرهاب والتطرف، حيث أخذت القوة الكبرى في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، الملف بيدها، وأصبح النظام الإيراني تحت معاناة مستمرة، تكبر ولا تصغر، تزيد ولا تقل، تصبح فاعلة ومؤثرة بشكل يشهده العالم، ويشهد تطورات المتلاحقة من تصعيد العقوبات إلى ناقلات الطائرات والبوارج والمدمرات إلى المنطقة.
ربما يتساءل البعض، ما هو النموذج الليبي؟ وكيف يتم تعميمه؟ وهو سؤال مشروع، إنه النموذج الجديد الذي يتم بناؤه بعناية وتخطيط ووعي، ولا يعني سوى إعادة بناء الدول العربية ودعم استقرارها وتنميتها، ودعم شعوبها وجيوشها للحصول على الخلاص، ما يعني القضاء على مخلفات الربيع الأصولي الذي سمي خطأ وزوراً الربيع العربي، من الميليشيات والجماعات والتنظيمات الأصولية والإرهابية، التابعة لمحور إيران وتركيا وقطر، وتخليص البلاد والعباد من كل تلك الشرور التي انتشرت قبل ما يقارب العقد من الزمان إبان ربيع الأصولية والإرهاب.
يجب أن يعمم النموذج الليبي في كل جمهوريات الانتفاضات والاحتجاجات العربية، لتتخلص بشكل كامل ونهائي من الميليشيات والجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة، وهو الخلاص الذي قادته الجيوش والشعوب في أكثر من دولة عربية، ونجحت فيه، في مصر وفي غيرها من الدول، وهو ما يجري اليوم في ليبيا ويمثل نموذجاً قابلاً للتوسيع والتعميم.
في اليمن مثلاً، مع مراعاة الفروق بالتأكيد، حتى لا نقع في وهم تطابق النماذج، فمن الجيد أن يعمم النموذج الليبي، وأن يتحمّل العالم مسؤولياته تجاه ما يجري هناك، ولئن خذّلت المؤسسات الدولية وتقاعست عن دورها فمن الواجب الانتباه إلى الدور التاريخي الذي تقوده الإدارة الأميركية تجاه هذا الملف المهم والمؤثر، وتبنيها لاستراتيجية فضح كل الدول الداعمة لميليشيا الحوثي وعلى رأسها إيران، وحشد تحالفات دولية فاعلة لإنهاء الأزمة اليمنية، والقضاء المبرم على الميليشيا التابعة لإيران تماماً كما تفعل نفس الإدارة تجاه «حزب الله» اللبناني.
يقول المثل إن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن تفاصيل المنطقة تشمل الملائكة أيضاً، فمن الجيد أن يتخلص الشعب السوداني من الحكم الأصولي لجماعة «الإخوان المسلمين» المستمر منذ عقود، وأن يتخلص الشعب والجيش السوداني من كل علاقات نظام البشير مع تركيا وقطر وإيران، وأن يخرجوا المحتلّ التركي من كل السودان ومن جزيرة سواكن تحديداً، التي سلمها البشير للمستعمر التركي على طبق من خيانة، وأن يرفضوا أي علاقاتٍ بدولة قطر المنتمية للمحور المعادي للدول والشعوب العربية.
ينبغي على الدول العربية وشعوبها الانتباه للدور التركي القطري الرافض لاستقرار الدول العربية، والداعم لميليشيات وجماعات الإرهاب والأصولية، فهؤلاء لن يسكتوا ولن يرضوا بسقوط أتباعهم الخونة الذين يعملون لمصالح هذه الدول، وضداً لمصالح بلدانهم، وها هي الأخبار القادمة من ليبيا تتحدث بتفاصيل مريعة عما تصنعه قطر وتركيا من دعم للإرهاب ورموزه في غرب ليبيا، من أسلحة متنوعة إلى إخراج قادة الإرهاب إلى السطح ليقودوا تدمير ليبيا وقتل أهلها ومحاربة الجيش الوطني الليبي، وصولاً إلى استئجار الطيارين المرتزقة من شتى أصقاع الأرض ليحرقوا الأرض الليبية ويقتلوا الشعب ويشيعوا الفوضى.
لا تبدو المهمة في السودان أسهل منها في ليبيا بل ربما كانت أشد صعوبة، ذلك أن تغلغل هذه الجماعات والتنظيمات في السودان أعمق تاريخياً وأطول مدة في الحكم والسيطرة على مقاليد السلطة، وبالتالي فهم صيد سهل لقطر وتركيا وكل ساعٍ للعبث باستقرار الدولة السودانية وتدمير مقدرات الشعب السوداني، وبالتالي فمهمة فضح هذا المحور المعادي هي مهمة الشعب السوداني قبل كل شيء.
المحور المعادي للدول العربية مستمرٌ في استراتيجياته المعادية منذ عقودٍ تختلف من دولة إلى أخرى، وهو سيواصل عداءه للدول والشعوب العربية، وهو يحاول التماسك في مواجهة الاستراتيجية الأميركية الضاغطة على دوله، وتحديداً في الملف الإيراني والعقوبات الدولية عليها، والمسؤولون القطريون الذين قالوا قبل أيامٍ إنهم يعترضون على سياسات الرئيس ترمب وعقوباته على إيران هم أنفسهم الذي يستقبلون طائرات «بي 52» الأميركية في القواعد الأميركية في قطر لضرب أهداف إيرانية لو أخطأت إيران هذه المرة في كيفية إخراج خضوعها لأميركا، وسعت لأول مرة في تاريخها لتحويل الشعارات إلى تنفيذ؛ حيث كانت تكتفي طوال تاريخها بالشعارات والخضوع، وحين تضعف الإدارة الأميركية توكل ميليشياتها بمهمات إرهابية حول العالم، ولكنها لم تواجه قط كدولة.
ما هو أقسى من العقوبات على إيران في توجهات إدارة الرئيس ترمب؟ هو التوجه إلى تصنيف جماعة «الإخوان المسلمين» جماعة إرهابية، وهو نهجٌ بدأته السعودية والإمارات ومصر؛ حيث لا يمكن القضاء على الإرهاب في العالم دون القضاء على الجماعة الأم والأب المؤسس لكل الأصولية والإرهاب المعاصر باسم الإسلام، وهو أمرٌ لو نجحت فيه، سيكون له بالغ الأثر على العالم بأسره.
هذا التوجه الأميركي إن اكتمل ونجح، فسيجبر الكثير من الدول الأوروبية على إعادة بناء استراتيجياتها وعلاقاتها بهذه الجماعة الإرهابية، وإن تمنّعوا لبعض الوقت فسيخضعون في النهاية، كما جرى في موضوع الملف النووي الإيراني، وخصوصاً أن بعض تلك الدول شهدت تغلغلاً «إخوانياً» قديماً في مجتمعاتها ومؤسساتها العامة والخاصة على مدى عقود من الزمن، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا؛ حيث كانت الجماعة تستثمر أموالها هناك، وتفتتح البنوك والمؤسسات الاقتصادية الكبرى التي توفر الدعم للجماعة، وكانت هذه الدول ملجأ دائماً لرموز وعناصر هذه الجماعة وكل جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف والإرهاب.
مع كل التعاطف مع الشعب الليبي في أزمته، ومع كل الأمنيات ألا تمرّ شعوب عربية أخرى بنفس المعاناة، إلا أن الخروج من عنق الزجاجة في تاريخ الدول والشعوب والأمم دائماً ما يكون مرحلة معاناة وألم، لكن ألم الأزمة ينهيه فرح النجاح، ونار الفوضى يطفئها برد الاستقرار.
الشرق الأوسط