محمد أبوالفضل يكتب:
المصالح الغربية والميليشيات الليبية
لم تنتبه الكثير من الدول الغربية لمخاطر انتشار الميليشيات في ليبيا، وانصبت نظرة البعض في محاولة توظيف رموزهم سياسيا واقتصاديا، وتجاهل الروافد الناجمة عن تضخم هذه الظاهرة، ولم يلتفتوا إليها جيدا سوى مع انطلاق العملية العسكرية لتحرير طرابلس، حيث تبين أن تحالف المتطرفين والكتائب المسلحة، ومعهم المرتزقة، يمثل خطرا داهما على مصالحهم.
أصبحت الدول الأوروبية على يقين أن استمرار الدور الذي تقوم به الميليشيات وما تؤدي إليه عملياتهم من توتر وعدم استقرار سببا رئيسيا لزيادة الهجرة غير الشرعية، وهو ما أزعجها وجعلها تميل ناحية نبذ الجماعات المسلحة، بعد أن انحرفت عن طبيعة الأدوار التي تقوم بها والمرسومة لها جيدا من قبل بعض القوى المحلية والإقليمية، ودخلت مجالات غامضة جعلت ليبيا ساحة لأنواع متنوعة من التجارة المحرمة.
ربطت مصر بين ملف الهجرة والإرهاب مبكرا، وتمكنت من وقف المهاجرين على السواحل الجنوبية للبحر المتوسط، وقدمت تجربة فريدة في كيفية سد المنافذ أمامهم، أجبرت الاتحاد الأوروبي على الإشادة بها، والمطالبة بتطوير التعاون المشترك للتخلص من كابوس الهجرة غير الشرعية، والتيقن أن مكافحة الإرهاب بشتى صوره الباب الملكي للحد من التأثيرات السلبية، خاصة أن هذه القضية تحظى باهتمام غالبية الدول الأوروبية.
قامت الوصفة المصرية على السعي لتضييق الخناق على القيادات الإرهابية والقضاء على العناصر النشطة والخاملة ومطاردتهم بكل الوسائل وغلق المعابر البرية والبحرية، لأن الهجرة تحولت إلى سلاح يهدد به المتطرفون بعض الدول الغربية، ومن خلاله جرى ابتزازهم والضغط عليهم لتليين مواقفهم السياسية وتغييرها لتكون سيفا مسلطا على رقاب الدول الراغبة في اجتثاثهم من ليبيا.
أدركت بعض الدول الغربية أن تجفيف منابع الإرهابيين سوف يؤدي تلقائيا إلى انخفاض معدل المراكب المحملة بالبشر والمتجهة نحو شواطئهم، وتأكد هؤلاء أن الرؤية المتكاملة أول خطوة عملية في اتجاه تصحيح الأخطاء التي ارتكبت سابقا وأفضت إلى تضخم الميليشيات وتصاعد مهام الإرهابيين وزيادة الهجرة غير الشرعية ونشر الفوبيا بطول وعرض الساحة الأوروبية.
ما تقوم به بعض القيادات الليبية حاليا يسير في اتجاه معاكس تماما، حيث تريد عدم تغيير المعادلة والحفاظ على ثوابتها. وبدلا من السعي للقضاء على العصابات المسلحة يتم فتح الباب لاستقبال الكثير من عناصرهم، وأثبتت السفن المحملة بالمعدات العسكرية والقادمة من تركيا أن ليبيا توشك أن تصبح فضاء فسيحا تمرح فيه كوادر الجماعات المتطرفة ومعها أنواع متقدمة من الأسلحة التي تهدد الأمن القومي لدول الجوار الأفريقية من الشرق والغرب والجنوب، والأوروبية القريبة من سواحل المتوسط.
حملت جولة فايز السراج رئيس حكومة الوفاق لكل من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا مؤخرا، تهديدا مبطنا يقول إذا لم تقفوا بحسم ضد الجيش الوطني وأحصل منكم على المساندة اللازمة سوف تتعرض بلدانكم لطوفان من الهجرة غير الشرعية، لأن ليبيا من الممكن أن تصبح بؤرة إقليمية لاستقبال المتشددين من أنحاء العالم، ما يفرض على المواطنين المهددة حياتهم البحث عن ملاذات آمنة.
جاءت ردود الأفعال مغايرة لما تمناه رئيس حكومة الوفاق، وحصدت العملية التي يقوم بها الجيش الليبي في طرابلس دعما كبيرا من المجتمع الدولي، واتسعت درجة الرؤية الرافضة لاستمرار الصمت على ما يقوم به المتطرفون في العاصمة، وبدأت القوى التي تتحالف معهم تشعر بغضب ملموس، ظهرت ملامحه في تحميل السراج نفسه لجانب كبير من مسئولية التدهور الأمني الذي ضرب ليبيا فترة طويلة.
تجاوزت الكثير من الدول الغربية فكرة الاعتماد على التنظيمات الإسلامية في تحقيق أغراضهم السياسية، وتحللت من بعض ضوابطها التقليدية، وأخذت تعيد النظر في المسلمات التي ضاعفت من الاعتماد على التيار الإسلامي في المنطقة، عقب توالي الإخفاقات التي تعرضوا لها في مصر وسوريا والجزائر والسودان وليبيا، وبعد أن تكشفت معلومات حول ترتيبات عدة راهنت على تنامي نفوذ القوى المؤدلجة.
ساهم هذا التطور في اضفاء المزيد من التفهم للدور الوطني الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في ليبيا، لأنها الجهة الوحيدة الرشيدة والمنظمة وتستطيع شل حركة الميليشيات وتفكيك التحالف بينهم والمتطرفين، وتملك أجندة معلنة وواضحة ولا تخفي أهدافها بشأن مواجهة الأطراف التي تعوق الوصول إلى الاستقرار.
لعل تلقي ردود أفعال إيجابية على عملية تحرير طرابلس ومن جهات مختلفة، تمثل واحدة من العلامات المهمة للمضي في طريق استعادة الأمن في الدولة الليبية، الذي يتمنى قطاع كبير من المواطنين تحقيقه قريبا، بعد أن ضجوا من حكم الكتائب المسلحة، ونهب مواردهم وثرواتهم، وتسخيرها لحساب جماعات تعمل على إزهاق أرواح الليبيين.
استفادت قيادة الجيش من البوصلة الدولية الرافضة لتعظيم دور المتطرفين وامتناع الدول الداعمة لهم عن مواصلة حمايتهم، وفوتت الفرصة على من أقاموا حساباتهم على إعادة الزخم للطوق الإسلامي، في كل من تونس والمغرب والجزائر والسودان، وتمكنت الجهود المصرية المتكاتفة مع الدوائر الليبية المخلصة من تقويض تمدد هذا التيار، وكان من المطلوب أن يصبح رافعة مركزية لأنصار القوى الإسلامية في المنطقة.
تقف الكثير من الدول الغربية في مفترق طرق، فإما تتمكن من تغليب الدفاع عن مصالحها وفقا لطبيعة التحديات الموجودة على الأرض، وتعكسها التنظيمات المتطرفة والجهات التي تتحالف معها، وإما الرضوخ لرؤية قاصرة تستجيب للتهديدات التي تستغل ورقة الهجرة غير الشرعية من دون أدنى ربط بينها وبين مكافحة الإرهاب.
خرجت من اللعبة حاليا الكثير من عناصر الكتائب المسلحة، بعد أن لمست تحولات لافتة في التوازنات، تميل لصالح الجيش الليبي، وباتت قدرة القوى السياسية على حمايتها محدودة، وهي الرسالة التي وصلت بوضوح إلى دوائر غربية متعددة، تفرض عليها التعامل مع الأزمة الليبية بصورة تأخذ في تقديراتها التطورات المتلاحقة، التي أدت إلى مشهد سياسي يتطلب انفتاحا على جميع الأطياف المحلية، وعدم الصمت على التجاوزات التي ترتكبها الجهات الداعمة للكتائب المسلحة وتتناقض مع جوهر المصالح الأوروبية.