خير الله خير الله يكتب:

الحلقة الضائعة في السودان

لا يزال الأمل كبيرا في أن يكون السودان تجاوز مرحلة الخطر التي كانت ستؤدي إلى فوضى ليس بعدها فوضى، على الرغم من العراقيل التي ظهرت مجددا في وجه التوصل إلى اتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي و”قوى إعلان الحريّة والتغيير”. مثل هذا الاتفاق أكثر من ضروري من أجل تفادي مرحلة يترحّم فيها السودانيون على عمر حسن البشير.

أمضى البشير ثلاثين عاما في السلطة لعب خلالها على كلّ الحبال التي يمكن أن يلعب عليها من دون أن يُقْدمَ على خطوة واحدة في مجال التنمية تصبّ في خدمة السودان والسودانيين. بالنسبة إليه، كانت السلطة هدفا بحدّ ذاته. دفع السودان ثمنا كبيرا لهذا التوجّه الذي يشكل قاسما مشتركا بين كلّ الذين يؤمنون بفكر الإخوان المسلمين.

دلّ الاتفاق بين العسكريين وقوى التغيير، والذي ما لبث أن تعرّض لنكسة، على نضج معيّن. فمرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تبدو معقولة من أجل التأسيس لنظام جديد يأخذ في الاعتبار الحاجة إلى أن يكون السودان دولة عصرية منفتحة على العالم، وتهتم برفاه شعبها.

يعرف الضباط الذين انقلبوا على البشير أن التخلّص منه ومن تخلّفه لم يكن ممكنا من دون الحراك الشعبي الذي استمر أشهرا عدّة، وأدّى في نهاية المطاف إلى نهاية دكتاتور آخر اعتقد في الأشهر الأخيرة من حكمه أنّ زيارة بشّار الأسد في دمشق يمكن أن تساعده في شيء.

ويعرف الذين كانوا وراء الحراك الشعبي أنّ الضباط الذين وضعوا حدّا لعهد البشير لعبوا دورا إيجابيا في مجال منع أي صدام في الشارع كان يمكن أن تكون له عواقب وخيمة.

منذ استقلال السودان في العام 1956، توالت العهود المدنية والعسكرية. يبدو الفشل القاسم المشترك بين كلّ هذه العهود. ما يميّز السنوات التي مرّت منذ الاستقلال عجز السياسيين عن ممارسة السلطة، وعجز العسكريين عن تقديم أيّ إيجابية. مرّ السودان بتجارب مريرة وحروب داخلية أوصلته إلى ما وصل إليه. هل يمكن الرهان على جيل جديد يتطلّع إلى التخلّص من عقد الماضي التي تحكّمت بالسياسيين السودانيين، والتي سهلت على العسكريين تنفيذ انقلاباتهم في الأعوام 1958 و1969 و1989؟

لم يكن السياسيون وزعماء الأحزاب السودانية في أيّ يوم في المستوى المطلوب وذلك على الرغم من تميّز عدد لا بأس به منهم بمهارات كبيرة. في 1958 سلّموا البلاد إلى الفريق إبراهيم عبّود، وفي 1969 إلى جعفر نميري، وفي 1989 إلى عمر حسن البشير الذي اعتقد حسن الترابي أنّه يستطيع التلاعب به. اكتشف الترابي متأخرا أن البشير يتقن كلّ أنواع المؤامرات والمناورات، بما في ذلك الذهاب إلى تقسيم السودان من أجل الإمساك بالسلطة بطريقة أفضل في الخرطوم.

يشير الاتفاق إلى مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وإلى وجود أكثرية مدنية في أي هيئة تتشكل لإدارة المرحلة المقبلة، وإلى وعي لدى العسكريين بدقّة الوضع وضرورة مراعاة الحراك الشعبي. فالواضح أنّه لم يكن هناك ما يشير إلى أنه يمكن لهذا الحراك أن يتوقف في غياب توافر شروط معيّنة. الأهمّ من ذلك أن العسكريين باتوا يعرفون أنّ ليس في استطاعتهم استنساخ تجربة البشير عبر أحد الضباط الكبار، اللهمّ إلا إذا كان هناك من ينوي ارتكاب حماقة أخرى.

هل ينجح السودان في الاستفادة من تجارب الماضي عمرها 63 عاما وكانت مليئة بالخيبات أكثر مما كانت مفعمة بالآمال. الواقع أن السياسيين السودانيين كانوا وراء كلّ تلك الخيبات، فسهلوا وصول الفريق عبّود ثم النميري وأخيرا عمر حسن البشير إلى السلطة.

لا يمكن الاستخفاف بالبشير. في النهاية، أمضى 30 من أصل 63 عاما على رأس السودان المستقل. ما الذي فعله غير ممارسة السلطة. لا شيء يذكر. تدهور التعليم في عهده وزاد الفقر. الأخطر من ذلك كلّه أنّه عمّق الانقسامات ذات الطابع الطائفي والقبلي. جعل من طموح أي مواطن الهجرة من السودان على الرغم من الثروات الكبيرة التي يمتع بها البلد الذي كان في الماضي إحدى الوجهات التي يقصدها مواطنون عرب من أجل جمع ثروة!

تطرح التطورات الأخيرة في السودان أسئلة من نوع هل هناك قيادات سياسية جديدة قادرة على أخذ المبادرة؟ الواضح أن هناك حاجة إلى ظهور مثل هذه القيادات حتّى لو كان ذلك من رحم الأحزاب القديمة مثل حزب الأمة أو الحزب الاتحادي.

باختصار، ثمّة حاجة إلى تجاوز كلّ عقد الماضي، بما في ذلك تلك التي تحكّمت بكل الأجيال التي توالت منذ الاستقلال وما قبل الاستقلال، أي أيّام الاستعمار البريطاني. من المفترض بالسودانيين التخلّص أوّلا من عقدة مصر والعمل على التعاون معها في العمق من أجل استفادة البلدين بطريقة أفضل من مياه النيل، في وقت تبدو إثيوبيا مصرّة على بناء سد النهضة. هذا لا يعني، بأيّ شكل، استعداء إثيوبيا، لكنّ موقفا موحّدا مصريا – سودانيا لا يمكن إلا أن يساعد في بلورة حلول عملية تصبّ في خدمة البلدين على كلّ صعيد.

يظلّ السؤال الأساسي والأهمّ. هل هناك أجيال متعلّمة يمكن البناء عليها في السودان أم أن عهد البشير قضى على هذه الأجيال بعدما قضى على التعليم، وسعى إلى نشر ثقافة أقلّ ما يمكن أن تُوصفَ به أنّها متخلّفة.

يظل هناك بعض الأمل في أنّ المدارس والجامعات السودانية قادرة على تخريج طلاب يتمتعون بحد أدنى من الوعي وذلك بفضل ثورة الاتصالات. هؤلاء نزلوا إلى الشارع وأسقطوا البشير. رفضوا أن يحلّ ضابط من جماعته مكانه. أصرّوا على تغيير حقيقي من دون الذهاب بعيدا في استعداء الجيش. سيعتمد الكثير في المستقبل على أمور عدّة. من بين هذه الأمور ظهور قيادات شابة تعرف ماذا تريد، وتعتبر أنّ من أولوياتها انفتاح السودان على كلّ ما هو حضاري في العالم، بدءا بخروجه من أسر الإخوان المسلمين.

أمّا الأمر الثاني الذي لا يمكن تجاهله، فهو يتمثّل في اقتناع كبار الضباط بضرورة لعب الدور المطلوب منهم لعبه، أي تأمين الانتقال الهادئ للسلطة بعد ثلاث سنوات.

من الطبيعي أن تكون ولدت لدى هؤلاء الضباط قناعة بأنّ العسكريين يصلحون للثكنات والمحافظة على الأمن ومواجهة الأخطار الخارجية، وليس لممارسة السلطة في بلد مثل السودان.

ما دلت عليه تجارب الماضي القريب أو البعيد أن الضباط السودانيين لم يمتلكوا في أي وقت حلا لأي مشكلة سودانية، بل كانوا في أساس خراب البلد الذي يحتاج إلى سياسيين ينقذونه مما هو فيه ومن سياسييه القدامى. هل من وجود لهؤلاء السياسيين الجدد، أم إنهم ما زالوا يشكلون الحلقة الضائعة في المعادلة السودانية؟