خير الله خير الله يكتب:
الحياد الإيجابي.. خطة للطوارئ في العراق
الولايات المتحدة تحث الخطى نحو تسريع إجراءاتها لأنها غير قادرة على استيعاب الإيقاع البطيء ولا مبالاة مصادر السلطة في العراق، لذلك لجأت إلى أسلوب التبليغ المباشر عن طريق أعلى سلطة دبلوماسية تبلورت في زيارة وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى بغداد وطرحه لما بين يديه من معلومات استخباراتية عن تموضع وتنقل المقاتلين في الميليشيات التابعة للحرس الثوري مع بطاريات الصواريخ الباليستية، رغم أن هذه المعلومات ليست جديدة وسبق أن أشارت إليها إسرائيل، وأبدت احتمال استهدافها بسلاح الجو أو الصواريخ. أعقب ذلك تفاهمات مع الإدارة الأميركية لتأجيل أو استثناء الساحة العراقية من ملاحقة نشاطات الحرس الثوري، واقتصارها مؤقتا على الأهداف الإيرانية في سوريا.
السفارة الأميركية في بغداد خفّضت من أعداد موظفيها وأجْلتْ الأكثرية منهم إلى خارج العراق بمن فيهم العاملون في قنصليتها بإقليم كردستان، وعلّقت الولايات المتحدة برامج تدريبها للقوات العراقية وقوات البيشمركة حسب ما صرّح به الأمين العام لوزارة البيشمركة جبار ياور، ثم عادت السفارة وفحصت صفارات الإنذار بالتزامن مع إعلان القيادة المركزية الأميركية رفع التأهب إلى الدرجة القصوى، لكنّ المسؤولين في العراق، كما يبدو، ليسوا في عجلة من أمرهم لقراءة مخاطر الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران، وما يمكن أن تتركه من مصاعب أمنية واقتصادية وسياسية على العراق، ولو من باب توقع الأسوأ.
ألمانيا بادرت إلى استشعار الاحترازات الأميركية بإيقاف الواجبات التخصصية لأكثر من 120 من جنودها المتعلقة بتدريب مجموعات من القوات النظامية وتستعد لترحيلهم. هولندا هي الأخرى علقت مهام بعثتها الدبلوماسية، يضاف إليها تعليمات متواترة عن استجابات التحالف الدولي للالتحاق بخطة الطوارئ الأميركية لحماية المصالح والشركات والدبلوماسيين، علما أن أصداء إجلاء الموظفين ترددت أيضا في السفارات الأميركية في لبنان وكازاخستان وبعض دول الخليج العربي، إضافة إلى تنبيه المواطنين المتواجدين في المناطق الساخنة وتحديدا في العراق للمغادرة. في مثل هذه التحضيرات الجادة انتقدت لجنة الأمن والدفاع النيابية في مجلس نواب العراق واشنطن لمطالبتها بإخلاء الموظفين في سفارتها مؤكدة أن مبنى السفارة مؤمّن تماماً.
السلطات في العراق عموما، من الرئاسات الثلاث إلى الأحزاب والكتل السياسية وحتى وزارة الخارجية، تتحدثُ عن “الحياد الإيجابي” في الموقف من المواجهة بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني في استعادة لذاكرة المنظمة التي جمعت في خمسينات القرن الماضي دول العالم الثالث بفكرة عدم الانحياز لأحد المعسكريْن الرأسمالي أو الاشتراكي، حيث اختارت الحياد لخلق التوازن أو الدفء على ضفتيْ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكان لتلك المنظمة أو المرحلة قادتها الذين ساهموا في خلق مناخات احترام لدورها، ثم ذوت برحيلهم وبتغير الوقائع وما طرأ على العالم من انفتاح نحو الاقتصاد الحر.
السفارة الأميركية في بغداد خفّضت من أعداد موظفيها وأجْلتْ الأكثرية منهم إلى خارج العراق بمن فيهم العاملون في قنصليتها بإقليم كردستان، وعلّقت الولايات المتحدة برامج تدريبها للقوات العراقية وقوات البيشمركة
الحياد الإيجابي للسلطات في العراق يتنافى مع منطق الولاء لولاية الفقيه، فتشكيل حكومة عادل عبدالمهدي مثال قريب لميول ميزان القوى إلى النظام الإيراني، عدا عن اصطفافات النظام السياسي طيلة سنوات الاحتلال رغم أنه وصل إلى الحكم متعلقاً بأذيال سرفات الدبابات الأميركية. لذا فإن ما يقال عن عدم تهديد فصائل الحشد الشعبي للمصالح الأميركية لأنها ليست بمعزل عن موقف الدولة وتأتمر بصلاحيات رئيس الوزراء، تفنده سيطرة فصائل الحشد على مقاليد السلطة في البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية وسلطة القضاء ولم تعد تقتصر على حملة السلاح، إلا إنها في المحصلة تشكل نظاماً خاضعاً بنسب متفاوتة في أهوائه لنظام الملالي.
الولايات المتحدة جربت مزاج فصائل الحرس الثوري سواء في محاذير الاستهداف الأمني، ومنها ما تأكد في استحضارات زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى قاعدة عين الأسد ليلا وما أثير حولها من جدل، أو في تزايد مطالب الحشد البرلماني لمناقشة استصدار قانون لإخراج القوات “الأجنبية” من العراق في هذا التوقيت الحرج، متجاهلين ومؤجلين موقفهم من تداعيات الصراع بين الطرفين على شعب العراق.
الاسترخاء في سياسة المسؤولين العراقيين لا تقترب منه إلا تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي من أن الحرب لن تقع، وأن الصراع يرتبط بالإرادات وبالحرب النفسية، رغم أن الحقيقة بين يديه وملء سمعه وبصره. فالقيادات في الحرس الثوري تصف الوضع في إيران بشفا الحرب أو بما قاله الرئيس الملا حسن روحاني عن الحرب حين قارنها بما يتجاوز نتائج حرب الثماني سنوات مع العراق.
لكن الأكثر دقة في تناول أزمة النظام الإيراني وخرافة قدراته العسكرية ما ورد على لسان وزير التعليم الإيراني، محمد بطحائي، حين قال إن “14 مليون طالب إيراني جاهزون للقتال عند اندلاع الحرب”، بمعنى أن رهانهم على أعداد المقاتلين ومن بينها خروقات تجنيد الأطفال الصغار في دلالة على تخلّف الفكر القتالي للقوات الإيرانية، التي مازالت ترى إمكاناتها في الحرب البرية وصنف المشاة والدفع بالمتطوعين. ولذاكرة الحرب مع العراق شجون لا تغتفر لذات قيادات الملالي لعدم مبالاتهم بالفتيان المغرّر بهم بمفاتيح جنة الخميني عندما حاول فتح حقول الألغام بأجسادهم الغضة.
جاء الدور الآن على المرشد خامنئي ليلقي بهم إلى أتون جبهات مجهولة في حرب يظنها لن تقع، ربما لديه خبرها، رغم أن سعيرها عند حافة كرسيه، لكن هذه المرة برفقة الأرقام السرية لهاتف الرئيس دونالد ترامب وعلى توقيت الساعة السويسرية التي تضع النظام الإيراني عند مدخل بوابة إعادة المفاوضات، ومواجهة الكشف عن البرنامج السري النووي الذي طالما هدد به خامنئي وحرسه والرئيس روحاني بإمكانية النهوض به لإنجاز نسبة 50 ألف جهاز طرد مركزي، وبتخصيب يورانيوم يتجاوز الـ20 بالمئة في وقت قياسي إذا تطلب الأمر ذلك. هل أصبح الحديث عن “الحياد الإيجابي” قاربا لأتباع ولاية الفقيه لعبور الأزمة؟ قارب قد لا ترضى به الولايات المتحدة، وربما لا ترضى به حتى ولاية الفقيه في محنتها لأن الوقت نفد من بين يديها.