محمد أبوالفضل يكتب:

أزمة المركز والهامش تتجدد ملامحها في السودان

انصبت غالبية الحوارات والمفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير على آليات إدارة الحكم خلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة، من دون التطرق إلى المشكلات المتراكمة التي يعاني منها جميع أهالي السودان، وكأن ما يعني فريقي التفاوض مناقشة الأزمة بطريقة مركزية، ما أدى إلى تململ بعض قيادات ما يعرف بـ”الأقاليم المهمشة” على الخطوات التي تم التوافق حولها.

بدأت ملامح الغضب المكتوم تظهر على السطح، الجمعة، عندما اعتبر تحالف حركات شرق السودان التفاهمات التي توصل إليها الطرفان مؤخرا “تأصيلا لمركزية قابضة، ولا تمثل الشرق ولا قضيته ولا إنسانه، وتقصي الهامش وتقوي الدعوة للحرب”، في إشارة دالة على جملة من الهواجس التي تصل بالسودان إلى نفق مسدود، وتصبح معه الخلافات حول طريقة اقتسام السلطة لا تمثل وزنا كبيرا مقارنة بما يستجد من مفاجآت.

نكأ بيان حركات الشرق جروحا كثيرة، وحاول المعتصمون والمجلس العسكري تسكينها عبر تنحيتها وعدم التطرق إلى تفاصيلها، خوفا من إثارة بعض النعرات التي تزيد الأزمة تفاقما، فقد قذف البيان بحجر كبير في عملية التفاوض المتعثرة، ويريد كل طرف ممارسة ضغوط قاسية على الآخر لتلبية مسودة مطالبه كاملة.

تزامن إعلان تحالف الشرق مع تسريبات نشرت السبت بشأن فشل محاولة انقلاب عسكري من تدبير ضباط جرت إحالتهم للتقاعد مؤخرا، في إشارة تفرض تضييق الهوة سريعا بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وإزالة العقبات التي تعتري التوصل لصيغة نهائية للتفاهم، وتحاشي الدخول في معارك تسجيل النقاط وأيهما يستجيب أكثر لمطالب الآخر.

بصرف النظر عن صحة التسريبات، فهي تحمل في طياتها مؤشرات على طبيعة المشكلات التي يمر بها السودان، والتي يمكن أن تتطور وتصل إلى قضايا استراتيجية تمثل خطا أحمر في تاريخ البلاد، وإذا تورط فيها حاليا سيكون من الصعوبة أن يخرج منها سالما في المستقبل.

درجت الدولة السودانية على تكريس المركزية الشديدة، وأصبحت قضية التهميش واحدة من المعضلات التي أدت نتيجتها إلى سلخ جنوب السودان منذ ثمانية أعوام، وتهديد أقاليم أخرى في الشرق والغرب والجنوب، وتصاعدت ملامح الانفلات إبان فترة حكم الرئيس السابق عمر حسن البشير، بسبب تبني ممارسات غير منصفة في جوهرها، قادت إلى خلق مسافات متباعدة، بعضها مفتعل، بين المركز والأطراف، حيث طغت الميول الإسلامية على النظام وجعلته لا يتردد في التضحية بأي من الأقاليم التاريخية للبلاد طالما أنه يحافظ على استمرار حكمه، ولو على جزء يسير من أرض السودان الكبير.

يبدو أن النظام الجديد، الذي لم تتشكّل معالمه النهائية حتى الآن، يعيد عن غير قصد واحدة من مآسي السودان المرتبطة بالانخراط في هموم العاصمة وسكانها، بصورة أثارت هواجس قطاعات تقطن في أقاليم أخرى تشعر بالغبن وعدم التوزيع العادل للسلطة والثروة، فغالبية قيادات إعلان الحرية والتغيير التي تتصدر المشهد السياسي تنتمي للخرطوم والمناطق الشمالية القريبة منها.

كما أن تفكير أعضاء المجلس العسكري ينصب تماما على جلب الأمن والاستقرار للعاصمة بشكل أساسي، وإدارة المرحلة الانتقالية من دون وجود عناصر النظام السابق والتخلص من امتداداته في الجيش والأحزاب والحياة السياسية برمتها، ناهيك عما يتردد عن ضرورة قطع أذنابه في الدولة العميقة، ولم يتم التطرق بوضوح لأي من المشكلات التي يعاني منها ما يعرف بـ”الهامش”، كما فرض انفتاح الأزمة على تفاصيل صغيرة تنحية بعض القضايا الحيوية.

ارتاح الطرفان المتفاوضان للهدوء الذي يخيم على الأقاليم القلقة، والتي شهدت صراعات ضارية مع نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير وقواته الأمنية، ولم يطرحا باستفاضة رؤية مناسبة للتعامل معها، واعتبرا إعلان وقف العدائيات العسكرية من قبل الحركات المسلحة مبكرا رضاء على أداء المعتصمين والمجلس العسكري، بينما هو تأييد لخطوة التخلص من نظام البشير الذي أرهق الأقاليم المختلفة وأدخل سكانها في متاهات وعرة من الحروب المسلحة، على أمل إعادة النظر في مسلمات شائكة.

لم يدرك المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير أن التفاهمات بينهما ستنسف اتفاقيات وُقعت مع بعض الأقاليم، وربما تفتح الباب لشكوك تؤدي إلى تفجير أزمات جديدة، ربما تتحول إلى ثغرة تقلل من حسن النوايا الظاهر حاليا حول ضرورة تجاوز التحديات السياسية المرصوصة على أجندة المعتصمين أمام مقر وزارة الدفاع في الخرطوم.

أخفقت الحركات المسلحة في إقليم دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان في التوصل إلى اتفاقيات سلام تصمد وتواجه العمليات العسكرية المتواصلة على مدار العقود الثلاثة الماضية، بينما نجحت اتفاقيات وقّعت بين الحكومة والشرق في تخطي محاولات تخريبها، ما جعل تحالف الشرق يطلق صيحته الغاضبة مؤخرا من المسار الذي تمضي فيه المفاوضات بين المعتصمين والمجلس العسكري، ويحذر من مخاطر تجاهل قضايا الأطراف وتبعاتها، ولوّح بأهمية التعامل معها بجدية والحفاظ على مكتسباتها.

يقود التركيز على القضايا السياسية التي تهم المركز ومواطني الخرطوم إلى زيادة فرص ترسيخ الأمر الواقع الذي أدخل السودان في معارك لا قبل له بها، وتسبب في انتشار الحركات المسلحة في المناطق المهمشة التي احتكمت إلى السلاح لإجبار نظام البشير على الحد من تجبره مع مواطني الأقاليم البعيدة.

بالطبع لعبة حمل السلاح عمرها طويل ولم تظهر مع قدوم البشير، لكن احتدمت مكوناتها خلال فترة حكمه، وتحولت إلى مبرر للضغط على سكان الهامش، ودخلت على خطوطها جهات متعددة، وتحولت إلى منغص في خاصرة نظام حكم البشير تحديدا، ووسيلة في يده لتفسير التقاعس عن القيام بإصلاحات هيكلية وعدم وأد التوترات.

فرضت النتوءات التي خرجت من رحم تداعيات عزل البشير منح أولوية لترتيب أوراق نظام الحكم والتوصل إلى إدارة ناجعة للمرحلة المقبلة، بما يخفف الضغوط السياسية على المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، غير أن الحقيقة تؤكد أن الضغوط سوف تظل مستمرة ما لم يتمكن الجانبان من زرع مفهوم السودان كدولة تستمد استقرارها من إعلاء قيمة المواطنة، والتي هي أساس الأمن والاستقرار في البلاد.

انتبهت بعض القوى الإقليمية المعنية بأمر السودان إلى ورقة الحركات المسلحة وفتحت قنوات تواصل مع بعضها لضمان تسكين الجبهات العسكرية، وإقناعها بأهمية التمسك بالتهدئة في هذا التوقيت حرصا على وحدة السودان، وتفويت الفرصة على من يفكرون في حض الجماعات المسلحة على توظيف التعقيدات الحالية والبحث عن مصالحهم بعيدا عن سلطة المركز.

يستطيع المجلس العسكري وقوى المعارضة السياسية احتواء الخلافات والتخلص من روافد النظام السابق، لكنهما سيواجهان بموقف عصيب إذا تمترست الحركات المسلحة وراء أي أصوات جهوية أو إقليمية، في وقت تحاول قوى الثورة المضادة تخريب المحاولات الرامية لتأسيس نظام قوي يتلافى عيوب الأنظمة السابقة.

وليتم تخطي أزمة المركز والهامش على المجلس العسكري والمعتصمين التعامل مع قيادات الحركات المسلحة كجزء من كيان السودان، والتفاهم معها على القواسم المشتركة من أجل استيعاب المخاطر التي تمر بها البلاد، لأن عزل هذه الورقة عن الحوارات الجارية يفتح جيوبا لأزمات قد يصبح معها التخلص من أذناب البشير والحركة الإسلامية والتفاهم حول إدارة الحكم الفترة المقبلة مسألة هينة.