محمد أبوالفضل يكتب:
رهانات ليبية خاطئة على تركيا
حاولت أريح القراء من الكتابة عن ليبيا هذا الأسبوع، لكن التطورات المتسارعة داهمتني وفرضت التوقف عند فكرة ربما لم يتطرق لها كثيرون، تتعلق بإصرار تركيا على إرسال سفن محملة بالأسلحة والمعدات العسكرية إلى ميناء مصراتة والخمس وطرابلس، وتصميم حكومة الوفاق والبعثة الأممية على تجاهل اختراقات حظر تصدير الأسلحة وقراءة المعطيات الإقليمية والدولية بصورة خاطئة.
تؤكد تحركات كثيرة أن تركيا، ومعها قطر، هما الدولتان الوحيدتان تقريبا اللتان تؤيدان تصرفات الحكومة الليبية بلا تحفظ، وتباركان تحالفها مع الميليشيات والمتطرفين، وتوفران دعما سياسيا للتصورات التي يتبناها غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا بشأن السعي لتمكين تيار الإسلام السياسي بأي وسيلة، وغض الطرف عن الإخفاقات المتتالية التي تواجهها بعثته، وبسببها يتحرك هذا التحالف لتغيير المشهد الذي يميل بقوة لصالح عملية طوفان الكرامة الساعية لتحرير طرابلس من قبضة العصابات المسلحة.
أنهكت العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الليبي الميلشيات وبددت تماسكهم الظاهر، ولم يتبق منهم سوى عدد محدود يساند حكومة الوفاق. لذلك بدأ رئيسها فايز السراج يستعين بمزيد من الأسلحة التركية ودفع الثمن المادي مقابل عدم توقفها، أملا في تعديل الموقف الميداني المنهك حاليا، ومنع انفضاض ما تبقى من قادة عسكريين وإرهابيين، والإيحاء أن المجتمع الدولي لن يعترض على خرق حظر تصدير الأسلحة.
لن تمثل الأسلحة القادمة من أنقرة عنصر إنقاذ كبير للعناصر التي تقاتل بجوار حكومة الوفاق، وربما تصبح صيدا ثمينا للجيش الليبي، من حيث سهولة تدميرها أو الاستحواذ عليها كغنيمة حرب. وتعرف تركيا أن تسريب أسلحتها لم يعد سرا، ولن تغضب من آليات الكشف عنها، وتعي صعوبة تغيير موازين القتال بهذه الطريقة البدائية، لكن أرسلتها لتأكيد أن لها يدا طولى في ليبيا قد تساوم على رفعها مستقبلا عندما تحقق مرادها.
تتكاتف مجموعة كبيرة من الأزمات حول تركيا، في سوريا ومع الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة وفي شرق البحر المتوسط ومع قبرص واليونان، ناهيك عن تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية في الداخل، ما يفرض على الرئيس رجب طيب أردوغان عدم توسيع نطاق الانخراط في ليبيا التي تتقاطع فيها الكثير من مصالح الجهات السابقة.
تقف أنقرة في صف تحالف حكومة الوفاق والميليشيات والمتشددين من منطلق أيديولوجي، لكنها لن تبخل بالتضحية بهؤلاء عندما تتمكن من جني ثمار خداع الآخرين. ومن غير المستبعد أن توقف سفن الأسلحة وتفرمل تحركات القيادات الإسلامية في اسطنبول وتحجم سفر المتشددين إلى ليبيا، إذا حصلت على وعود بتخفيف الضغوط الواقعة عليها في بعض الملفات الإقليمية الحيوية.
لدى أنقرة خبرة واسعة في المساومة والمناورة. وتفاهمت من قبل مع ألمانيا على ورقة الهجرة غير الشرعية، وحصلت على مقابل مادي سخي أجبرها على وقفها. وتعرف أن مكونات الجغرافيا السياسية لن تسمح لها بنفوذ كبير في ليبيا. وتدرك أن تحركاتها تكتيكية وليست استراتيجية. وثمة دول عربية تقف لها بالمرصاد. وعلى اقتناع أن بعض الدول الغربية لن تسمح لها بتهديد مصالحها الأمنية والاقتصادية من خلال ليبيا.
إذا كانت بعض التطورات سمحت بزيادة تشابكات تركيا على الساحة الليبية، ففي لحظة معينة سوف يتم إجبارها على الخروج بأي ثمن. وهنا تريد أنقرة ثمنا سياسيا مغريا عبر الحصول على تنازلات في ملفات إقليمية أخرى. ما يجعل رهان بعض القوى الليبية عليها خاطئا. وقد تكون حكومة الوفاق ضحية سياسات أردوغان، كما هي ضحية تعلقها بمشاجب محلية ضعيفة.
تصر الحكومة على تجاهل الانتهازية التركية. وتعتقد أن استمرار تدفق الأسلحة كفيل بالضغط المعنوي على الجيش الوطني الليبي لدفعه نحو القبول بنداءات المبعوث الأممي لوقف إطلاق النار، بعد ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من جانب الميليشيات ومحاولة إلصاقها بالمؤسسة العسكرية الوطنية.
يجتهد غسان سلامة في تأليب المجتمع الدولي على القوات المسلحة بلا طائل، لأن تحركاته لتمكين تيار الإسلام السياسي متعثرة. ويعمل على ترويج ادعاءات كاذبة وقدرته الفائقة في التأثير على الإدارة الأميركية، بمساعدة قطرية.
فقد التقى مؤخرا مسئولين في الولايات المتحدة، بترتيب من أحد مراكز الأبحاث المدعومة من الدوحة، وخرج من اللقاءات منتشيا، بينما لا يزال الموقف الأميركي ثابتا من رفض سيطرة الكتائب المسلحة والمتطرفين، ويتناغم مع تحركات المشير خليفة حفتر قائد الجيش الرامية لمكافحة الإرهاب وتخليص سكان العاصمة من قبضة الجماعات المسلحة.
تمضي عملية طرابلس بحسابات دقيقة، وقادت نحو حصد مكاسب جيدة حتى الآن، ونجحت في الحصول على تأييد خارجي، انعكست معالمه في شكل برودة في اللقاءات التي أجراها السراج مع بعض القيادات الغربية، في وقت تزداد فيه الحرارة السياسية مع حفتر، الذي حصد دعما داخليا ظهرت تجلياته في التفاف الأهالي حول القوات المسلحة التي تعمل على تخليصهم من الكتائب المسلحة ووقف نزيف الأموال التي تذهب لجيوب الميلشيات. وفشل السراج في تصوير العملية على أنها معركة بين شرق وغرب، أو أن سكان طرابلس على قلب رجل واحد في دعمهم لحكومته.
يخشى السراج من مغبة التناغم الداخلي والخارجي مع تصورات الجيش الوطني، وسارع بإغداق أموال الليبيين على بعض مؤسسات العلاقات العامة، وبينها التعاقد مع شركة المسايسة الأميركية "جلوفر بارك جروب" تحت وهم تغيير موقف إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتم دفع 150 ألف دولار تكلفة نشر مقال كتبه في "وول ستريت جورنال" مؤخرا.
ويقوم أحمد معيتيق عضو المجلس الرئاسي الليبي بزيارة لواشنطن لحض أعضاء في الكونغرس على إنقاذ حكومة الوفاق، والمساندة في توفير شبكة أمان جديدة للمتشددين في ظل مواجهتهم معركة عسكرية وسياسية حاسمة يمكن أن تقضي على وجودهم القوي في ليبيا والمنطقة برمتها، وحرمان الدول التي دافعت عنهم وتاجرت بهم من أي مزايا.
تعلم أنقرة أن هذه الورقة فقدت جزءا كبيرا من بريقها، وتأثيرات أسلحتها محدودة ومن السهولة اصطيادها، وما لم تخرج من هذه الورطة بإرادها سوف تجد نفسها أمام سلسلة من الضغوط الدولية تجعلها تبتعد عن ليبيا وهي خالية الوفاض. الأمر الذي يؤكد فشل ترتيبات من وضعوا كل بيضهم في سلة دول تناصر الإرهاب.