محمد أبوالفضل يكتب:
المعركة على شكل السودان الجديد
تبخرت رغبة العقيد الراحل جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، سريعا لتكوين سودان جديد يقوم على الحرية والعدالة والمواطنة، ولا فرق فيه بين شمال وجنوب، أو شرق وغرب، واتجه إلى خيار الانفصال رضائيا بعد سنوات من حمل البندقية قسريا. والنتيجة لم ينعم الجنوب بالأمن، ولم يحل الاستقرار في الشمال، ولم تتوقف فصول الحروب الغامضة.
بالطبع لا يعيد التاريخ نفسه، لكن الكثير من القوى تحاول الاستفادة من عبره وتجنب تكرار أخطائه لتحقيق أحلامها. والمشكلة أن كل طرف ينظر إلى الدروس من زاويته فقط، ويعتقد أنه على صواب دائما، وينكر ذلك على من يختلفون معه، وقد يرفع شعارات جذابة بلا مضمون، فالمهم الوصول إلى قلوب الناس من دون عقولهم.
هذه واحدة من القضايا التي أدت إلى تباعد المسافات بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف إعلان الحرية والتغيير مؤخرا. فكل جانب يرى أنه قادر وحده على امتلاك صك السودان الجديد. وزادت الهواجس بما جعل الطرح الذي يقدمه طرف محل شك من الطرف الثاني. وأخفقت محاولات التوافق حول قواسم مشتركة تعيد بناء الدولة على أسس سليمة.
أدى احتدام التجاذبات إلى تلويح باللجوء إلى خيارات صعبة. صورت المشهد العام كأنه معادلة صفرية. كل مكسب للمجلس العسكري يمثل خسارة للحرية والتغيير. والعكس صحيح. وأصبح الأفق الذي تمضي فيه الأمور قاتما، وربما يفضي إلى عدم التفاهم على مصير السودان الجديد، ويصب في صالح جهات ترغب في تعميم مكونات القلق والارتباك.
يعي المجلس العسكري ملابسات المسألة جيدا، ويدرك طبيعة التهديدات التي تحيط بأمن واستقرار وسمعة دولة فقدت قدرا كبيرا من مصداقيتها في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بسبب انتهازية القيادة السياسية وادمانها المشي على حبال مترهلة، والانحياز لجبهات متشددة وضعتها في خانة قوى شاردة ومزعجة لجيرانها. ويزداد تمسك المجلس بدوره المحوري في الصيغة الوطنية التي سيتم الالتفاف حولها انطلاقا من يقينه بتعاظم التحديات الإقليمية.
يتشكك تحالف الحرية والتغيير في هذا التقدير، ويرى فيه مبالغة متعمدة، ويحوي أهدافا خفية، وتعمل قيادته على توظيف ورقة المعتصمين في الشارع وتضخيم أطرها وتفاعلاتها السياسية، وتهميش دور المؤسسة العسكرية بحجة السعي لدولة مدنية خالصة. وتسويق الأمر على أن طبيعة الجيوش تقف في صف مناهض للقوى الديمقراطية.
لست في مجال اختبار الفرضية أو تحميلها اسقاطات سياسية على نماذج بعينها في المنطقة. لكن خبرة السودان العريقة لن تخدم من يريدون الاستئثار بالسلطة، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين. فأحد مشاكله وقوعه في فخ الفريقين، ولم تفلح تجارب أي منهما سابقا في الحكم منفردا في تبديد الشكوك.
تفرض التعقيدات الراهنة التوصل إلى تحالف شفاف بين الطبقتين (العسكرية والمدنية) يقوم على وضع عقد اجتماعي يؤدي إلى تحقيق حلم السودان الجديد. فمهما اجتهد الجيش في الحديث عن التحديات وكشف ملامح المتربصين بالدولة في الداخل والخارج لن تتزحزح قناعة الرافضين. ومهما حاولت المعارضة بأطيافها المختلفة تهميش دور المجلس العسكري في الحياة المدنية لن تفلح لأن عددا كبيرا من قياداته لديهم خبرة سياسية غير خافية.
تبدو المعركة في الظاهر صراعا على شكل الحكم في السودان، بين من يرون أنهم أهل حنكة وكفاءة أمنية لحمايته من المخاطر وابعاده عن التوترات، وبين من يعتقدون أنهم أولى سياسيا بالقبض على زمام الأمور. بينما هي في الباطن خلاف محتدم بين نموذجين متناقضين في المنطقة. كلاهما يريد تأكيد صواب منهجه.
الأول يميل إلى تثبيت دور الجيوش كحارس أمين على الحكم في عديد من الدول العربية، بعد سلسلة انهيارات عصفت بكل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، سمحت بتسلل تنظيمات متطرفة، وشيوع أنماط متباينة من الإرهاب لم تعرفه المنطقة من قبل. وكلها تحتاج إلى قبضة حديدية للتعامل معها، بالتالي لن تستطيع فكرة الحكم المدني مجابهة المستجدات التي لا تزال ترى في تيار الإسلام السياسي رأس حربة للتخريب والتدمير وليس أداة للحكم الرشيد.
فما بالنا بالسودان الذي كان في مقدمة الدول التي فتحت الباب مبكرا لعناصر هذا التيار الذي لا يزال يحتفظ بقوة قاعدية وتنظيمية وسياسية كبيرة، ويتربص حاليا للنيل ممن أسقطوا البشير، ويعمل جاهدا للعودة إلى السلطة؟
أما النموذج الثاني، فهو الذي يحلم بتنحية الطبقة العسكرية عن السلطة والتأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، وتنتابه مخاوف جمة من اقتراب قياداتها من الحكم، لأنها تصل في النهاية إلى تكريس قبضتها الأمنية، ووضع جميع المفاتيح السياسية في يدها، ولا تقبل شراكة من خارجها، وهو ما جعل "الفوبيا" تنتشر في صفوف غالبية القوى العربية الراغبة في صيغة واعدة للدولة للمدنية.
تتجاوز المسألة حدود السودان، وتكاد تعتمل المعركة بين النموذجين، صراحة أو ضمنيا، في كثير من الدول العربية. ولعل بعض التطورات الحالية تؤكد لأي درجة تعاظم الانسداد بين عناصر الطرفين. ففي الجزائر هناك رفض قاطع لاستمرار السيطرة التاريخية للمؤسسة العسكرية. وفي ليبيا، التي أنهكتها العصابات المسلحة وضعفت فيها الحكومات، يكتسب الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر أرضا تمنحه مشروعية كبيرة.
تكمن مشكلة السودان في تجاربه. فعلى مدار ستة عقود من التذبذب، اتسع نطاق الخلاف حول النموذجين، حيث تمتلك عناصر كل فريق عوامل كبيرة للقوة الشاملة، تشير إلى صعوبة فوز أحدهما بالضربة القاضية، وتحتم أن يكون التلاقي حول مستقبل السودان عن طريق الشعب للخروج من الأزمة، لأن تمرير رؤية المجلس العسكري كاملة لن يضمن بقاء قياداته فترة طويلة في السلطة، فقد مضى وقت الاستحواذ عليها بلا منغصات سياسية.
كما أن ترجيح كفة تحالف الحرية والتغيير لن يفضي إلى سلطة صامدة في مواجهة عواصف عاتية وأزمات متراكمة، وعلى قواه الحية الخروج من أسر الحسابات المسكونة بهواجس إقليمية، لأن السودان له خصوصية عسكرية ومدنية مختلفة عن معظم الدول العربية، وهي التي ستتحكم في البوصلة التي يستقر عليها شكل الحكم الجديد.